ثلاث سنوات من النزف تواصلت فيها الأحداث الدامية والمآسي على إختلافها لتنال من الشعب السوري في كل مفاصل حياته التي اصبحت تفتقد إلى كل مقومات الحياة الإنسانية التي يستحقها هذا الشعب . لقد إستبشر محبو الشعب السوري بالإتتفاضة الجماهيرية السلمية التي فجرتها القوى الوطنية الديمقراطية السورية قبل ثلاث سنوات آملين تطور هذه الإنتفاضة إلى ثورة عارمة تطيح بنظام البعث الدكتاتوري المقيت الجاثم منذ عقود على ربوع سوريا والمتحكم بحركات وسكنات شعبها مستخدماً لذلك كل وسائل القمع والبطش والإنتهاك والجريمة ، هذه الوسائل التي اصبحت العلامة الفارقة لسياسة البعث اينما تسمح له الظروف بالتسلط على مقدرات الشعوب . واستمرت هذه الإنتفاضة على سلميتها مع تأكيدها في نفس الوقت على شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " . إن نظاماً دكتاتورياً كنظام البعث لا يختلف في اساليبه القمعية سواءً حلَّ هذا النظام على ارض الرافدين او ارض الشام او على اي ارض اخرى قد تُبتلى به مستقبلاً ، لا سامح الله ، إذ ان الويلات والمآسي التي يخلفها نظام البعث الدكتاتوري القمعي تترك آثارها السلبية على مجمل الحياة وعلى مسيرة الوطن في الأرض التي يتسلط عليها هذا الحزب الشوفيني المتخلف الفكر والعدو للإنسانية ، والعراق بالأمس وسوريا اليوم امثلة حية شاهدة على جرائم هذا الحزب وانظمته القمعية في هذين البلدين . وحينما قابل النظام السوري الجماهير المسالمة بالقتل والقمع وبالنار والحديد تطورت الإنتفاضة الجماهيرية التي فقدت القوى الديمقراطية المسالمة السيطرة على توجيها ، خاصة بعد ان دخلها الذين وقفوا يتفرجون على المسرح السياسي من الإخوان المسلمين والقوى الإسلاموية السوداء القادمة من خارج سوريا وفق أجندات رجعية متخلفة بدأ الإسلام السياسي بتنفيذها حينما ركب موجة الإحتجاجات الجماهيرية السلمية ليحولها إلى قتال مسلح كان هدف قوى الإسلام السياسي من وراءه إخراج التحرك الجماهيري عن سلميته وركوب موجة العنف التي خطط لها هؤلاء "المجاهدون " العرب والأفغان والشيشان وكل أحفاد الشيطان والدواب الأخرى لتكون إشارة البدء في تخريب هذا البلد الجميل والإنتقام من اهله وتخريب نسيجه الإجتماعي . وقد نجحوا في ذلك فعلاً طالما هناك قوى خارجية تمدهم بالمال والسلاح كأمريكا وحلفاؤها وفي مقدمتهم تركيا وفرنسا والسعودية وقطر من جهة وإيران وحلفاؤها من جهة اخرى . فاستمر القتال واستمر القمع والتشريد وظل الشعب السوري هو الخاسر الوحيد الذي يتحمل كل التطورات السلبية التي تسير نحوها هذه الأزمة التي ظلت مستعصية حتى على مفجريها سواءً من النظام الدكتاتوري البعثي او من الدول التي عملت على تأجيجها بدعم العنف والإرهاب بالمال والسلاح . وحينما ادركت كل القوى الإرهابية التي تواجه الشعب السوري بالقتل اليومي وكل انواع الإرهاب الإقتصادي والسياسي والديني بأن العنف لا يقود إلى حل الأزمة وإن الحرب الأهلية التي اشعلتها هذه القوى جميعاً ، النظام البعثي وما يسمى بالمعارضة بمختلف فصائلها وتوجهاتها المتناحرة فيما بينها ، لا يمكنها ان تتوقف بالنظر لتشعب المصالح واختلاف التوجهات ، تم التفكير بما يسمى بالحل السياسي الذي جمعوا له مختلف الدول لتجتمع على شكل اصدقاء الشعب السوري تارة ً أو على شكل مؤتمر جنيف الأول ومؤتمر جنيف الثاني تارة اخرى . إلا ان جميع هذه المحاولات لا تجدي نفعاً امام قوى وضعت تحقيق مخططاتها الذاتية عائقاً امام ما تصبوا إليه الجماهير الشعبية في سوريا والذي يتلخص بالسلام وإنهاء هذه الحالة المأساوية التي تزداد تردياً كل يوم . فكيف الوصول إلى ما يريده الشعب السوري من سلام وأمان وعودة إلى الحياة التي سوف لن تكون طبيعية لسنين عديدة ؟ ما افرزته الساحة السياسية والعسكرية السورية اثبت للجميع على ان القوى الفاعلة الآن ميدانياً وسياسياً عاجزة عن التأثير على مجمل التطورات بحيث تجعلها تنسجم والقرب من الحل السياسي . وهذا يعني ان القضية السورية خرجت من يد السوريين انفسهم واصبحت بيد القوى الخارجية التي اججت هذه الحرب الأهلية الدائرة الآن . وبما ان هذه القوى تفكر دوماً بتحقيق اكثر ما يمكن من مصالحها الذاتية ، حتى ولو على حساب الشعب السوري ، فلا يمكن التوصل معها إلى اي حل سياسي للأزمة السورية . فلم يبق في هذه الحالة إلا التوجه إلى المجتمع الدولي والمنظمات السياسية والإجتماعية والعسكرية المنبثقة عنه للعمل على تحقيق السلام في سوريا وإنقاذ شعبها من مواصلة السقوط في الهاوية التي تتوسع يوماً بعد يوم والتي سوف لا تنفع معها المؤتمرات مهما تعددت ، كما انها لا تنفع اليوم . إن على المجتمع الدولي ومنظمته الأمم المتحدة ومجلس الأمن ان يخطط لتحقيق ثلاث مراحل مهمة يمكن من خلال تنفيذها تحقيق الحل السياسي في سوريا. وهذه المراحل هي : أولاً : إيقاف القتال على جميع الجبهات . ثانياً : إخراج كافة الأجانب من سوريا . ثالثاً : معالجة مخلفات الحرب وإجراء إنتخابات حرة ونزيهة . اما ما يخص المرحلة الأولى فالكل يعلم بأن القوى المتصارعة ميدانياً على الساحة السورية قد تشعبت وتفرعت وتكاثرت بشكل لا يمكن لأي احد منها ان يكون مرجعاً قيادياً للآخر . فلو جرى ، على سبيل المثال ، ألإتفاق في جنيف 2 على وقف إطلاق النار . ففي هذه الحالة يمكن الإعتقاد بأن النظام السوري سيكون مرجعاً لقواته المسلحة المؤتمرة باوامره التي يجري تنفيذها من قبل هذه القوات ويحقق وقف إطلاق النار من قِبَل طرف النزاع هذا . فكيف سيتم تنفيذ وقف العنف والقتال لدى الطرف الثاني من النزاع وهو ما يطلق عليه بالمعارضة ؟ المعارضة السورية نفسها مشتتة ومتناحرة سياسياً بشكل لم تستطع معه الإتفاق على تمثيل نفسها في مؤتمر جنيف 2 بشكل متكامل . كما ان هذه المعارضة السياسية رمت بكل ثقلها نحو تركيا ، الدولة التي بدأ الإسلام السياسي ينخر بعظامها ،فعملت على إستغلال التحركات الجماهيرية العربية عامة والسورية بشكل خاص لتحسين وجهها الذي يزداد قبحاً لدى الإتحاد الأوربي الذي تستجدي الدخول اليه منذ سنوات بدون جدوى . إن هذا الإنحياز نحو تركيا جعل المعارضة في موقف لا تحسد عليه امام الشعب الكوردي في سوريا وفي المنطقة عموماً والذي كان بالإمكان كسبه إلى جانب المعارضة ، وهو جزء هام من المعارضة فعلاً ، لاسيما وإن الحركة الثورية الكوردية وعموم الشعب الكوردي على نقيض دائم مع النظام السوري الذي إعتبر الكورد السوريين اجانب في وطنهم . فتركيا بسياستها الشوفينية القمعية تجاه الشعب الكوردي لا يمكنها ان تكون صديقة لشعب آخر كالشعب السوري مثلاً . كما ان هذه المعارضة السياسية السورية لا تأثير يُذكر لها على ميادين القتال المتعددة في سوريا الآن . اما الجيش الحر فهو لا يملك من القوة التي يستطيع معها التأثير حتى على بعض وحداته التي اصبحت لا تعتمد على الهاربين من جيش النظام فقط ، بل ومن فصائل مليشياتية مرتزقة ايضاً . امام هذا المشهد تبرز القوى المسلحة للإسلام السياسي بكل تفرعاته وتشعباته التي لم تتوان من الإقتتال فيما بينها او بينها وبين فصائل الجيش الحر او بنيها وبين القوى الكوردية التي تمارس الإدارة الذاتية الآن في بعض مناطق تواجد الشعب الكوردي التي حررتها قواه الشعبية من سطوة النظام . فنحن إذن امام قوى متشعبة تمارس العنف ، وإن بعضها لا يمكنه التخلي عن العنف طالما انه لا يملك أجندة سياسية واضحة المعالم ، بل ان كل ما يدعيه هو الإرتكاز على تعاليم متخلفة يسوقها كتعاليم دينية يريد ان يؤسس لدولته الإسلامية على أساسها وليس له طريق آخر لذلك سوى العنف والقتل امام صرخات التكبير ومشاهد التمثيل بجثث ضحاياه واستعمال رؤوس قتلاه للهو والتسلية بها في لعبة كرة القدم . ففي هذه الحالة لا يمكن لأي عاقل ان يفكر بإمكانية وقف القتال على جميع جبهات الصراع في سوريا وذلك لعدم وجود مرجعية يُعتمد عليها لقوى المعارضة التي سوف تخرج بعض فصائلها لمواصلة القتال فتعطي بذلك لنظام البعث كافة المسوغات لتشغيل ماكنته العسكرية مجددا. إن ذلك يعني ان المجتمع الدولي بكل ما يملكه من تأثير سياسي وقوة عسكرية وإجراءات إقتصادية هو الوحيد القادر على فرض ، نعم فرض ، وقف إطلاق النار كخطوة أولى لحل المأساة السورية سياسياً. أما ما يتعلق بالمرحلة الثانية التي لابد من تحقيقها قبل البدء بأي حوار بين السوريين انفسهم فتتضمن وجوب إخراج كافة الأجانب من الأرض السورية وفسح المجال امام ممثلي الشعب السوري من أخذ مهمة وطنهم على عاتقهم . فمن المعلوم للجميع ان الساحة السورية تكتض الآن بمجاميع مسلحة دخلت الأرض السورية من جهاتها المختلفة متخذة من الدين بشكل اساسي غطاءً سياسياً لما تقترفه من جرائم بشعة لا ضد الشعب السوري فقط ، ولا ضد الواقفين إلى صف النظام كما تزعم هذه المجاميع ، بل انها تمارس الجريمة المنظمة حتى على الطرق البرية المؤدية إلى سوريا وعلى كل من يقع تحت طائلة فرقهم المنتشرة والمدججة بالسلاح لتقتل كل من لا يجيب على اسئلتهم البليدة التي يطرحونها على ضحاياهم كعدد ركعات صلاة الصبح مثلاً ، او كيفية أداء أذان الصلاة وغير ذلك من السخافات . هذه المنظمات الإرهابية القادمة من الباكستان وأفغانستان وإيران ولبنان والعراق وفلسطين وتركيا والجزائر والسعودية وليبيا ودول الخليج وحتى من بعض الدول الأوربية رافعة اعلامها الدينية السوداء سواد وجوهها وأفئدتها ، مكبرة بعد تدحرج كل رأس من رؤوس ضحاياها ، تشكل الخطر الأكبر على الشعب السوري ومحاولات خروجه من المآسي التي يمر بها اليوم ، إذ انها لا تنظر إلى ما يريده الشعب السوري الغريب عليها من أمان واستقرار بقدر نظرتها إلى اجنداتها الإجرامية والسعي نحو دولتها التي تريد لها ان تكون نموذجاً للتخلف الطالباني ودولته المقبورة في افغانستان ، لا بل اشد همجية وتخلفاً وأكثر جريمة . هذه المجاميع الإرهابية يجب ان تغادر الأرض السورية فوراً حينما يصار إلى التوجه لحل الأزمة السورية سياسياً . ولكن كيف ؟ ومن يستطيع إخراجها ؟ وهنا نعود ثانية إلى المجتمع الدولي ممثلاً بكل منظماته التي يجب ان يعمل كل في إتجاهه لتحقيق هذا الهدف . وإن السبيل الأمثل لتحقيق ذلك يتمركز حول سعي المجتمع الدولي إلى الضغط الجدي والمباشر والذي قد يصل إلى حد فرض العقوبات السياسية والإقتصادية والعسكرية على الدول والحكومات الممولة لهذه العصابات الإجرامية . فإن إستطاع المجتمع الدولي ان يقطع مصادر تمويل وتسليح هذه المليشيات المسلحة ، وهذه المصادر معروفة للقاصي والداني ، فإنها لا تستطيع ان تتواجد على الأرض السورية ، لاسيما إذا ما إقترن هذا الإجراء بإجراءات الملاحقة التي تقوم بها القوات الدولية على الأرض السورية بغية إخراج هذه المجاميع وإبعادها عن هذه الأرض . وحينما يعم السلام على الأرض السورية ويتم تنظيفها من قذارات المليشيات المسلحة الإجنبية ويساهم المجتمع الدولي بفرض النظام على كل الأرض ، في هذه الحالة فقط يمكن للأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة ان تهيئ الأجواء بكل معطياتها وتساعد الشعب بكل فئاته على امرين مهمين ينبغي مسارهما بشكل متوازي إذ ان احدهم يكمل الآخر . إن اول هذين الأمرين هو معالجة الكوارث الإنسانية التي حلت بملايين السورين وجعلتهم في وضع صحي وإقتصادي واجتماعي بعيداً عن التصورات الإنسانية الطبيعية لحياة الإنسان . إن معالجة هذا الأمر لكي يسترد الشعب السوري انفاسه ويخرج تدريجياً من مآسيه التي عاشها خلال السنين الثلاث الماضية كفيل بخلق الأجواء الطبيعية لإجراء إنتخابات حرة ونزيهة مراقبَة دولياً يتقرر فيها شكل ونوعية الحكومة التي يمنحها الشعب ثقته للبدء بإعمار ما خربته الحرب إجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ، وهذا هو الأمر الثاني الذي ينبغي تحقيقه في المرحلة الثالثة كضمانة لإستباب الأمن وسير الحياة بشكل طبيعي . ومن الطبيعي جداً ان لا يستطيع الشعب السوري ، وتحت معطيات مخلفات الحرب، ان يحقق هذه المهمات لوحده ، فهو بحاجة ماسة إلى الدعم الدولي الذي قد يستفيد من التجارب السابقة التي مرت فيها بعض البلدان بظروف مماثلة فأنقذها تدخل المجتمع الدولي من واقعها المرير بعد ان تكفل بمد يد العون لها حتى تستطيع الوقوف على قدميها ثانية ، وهذه هي إحدى المهمات والواجبات الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها جميعاً ، خاصة الإنسانية منها وهذا ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة واسلوب عملها وتعاملها مع اعضاءها ، وسوريا من البلدان العريقة القدم في هذه المنظمة الأممية .
|