فقهاء الحكام وفقهاء العوام (3 و 4) ..المرتكزات الأساسية لخط الخلافة العامة ــ .. بقلم / السيد عصام احميدان الادريسي*

 

 

 

 

 

 

العراق تايمز ــ كتب السيد عصام احميدان الادريسي:

(3)

المبحث الأول : المرتكزات الأساسية لخط الخلافة العامة :

1 ــ الحكم متفرع عن الخلافة ومقيد بها :

قال الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (سورة البقرة ، آية 30).

تمثل الآية الكريمة مدخلا أساسيا للحديث عن نظرية الخلافة العامة في الأرض ، وقد يظن البعض أننا إذ نتحدث عن الخلافة فنحن نقصد بذلك الحكم ، وهذا الأمر غير صحيح، لأن الخلافة العامة أعم وأشمل من الحكم ، بل إنها أساس الحكم في النظرية القرآنية ، والدليل على ذلك من القرآن هو قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (سورة ص، آية 26)، أي أن الله تعالى جعل داود خليفة وبناء على خلافته تلك يأمره بأن يحكم بين الناس بالحق ، لأن (الفاء) هنا للسببية بحيث ما قبلها علة وسبب لما بعدها ، فتكون الخلافة سبب للحكم بين الناس بالحق .

من هنا ، فإن الخلافة هي أساس الحكم وغايته، ليصبح بذلك الحاكم مقيدا بمفهوم الاستخلاف الإلهي للإنسان .. لكن، يثار أيضا في هذا الصدد نقاش بين العلماء والباحثين عن حقيقة هذا الاستخلاف هل هو نوعي لعموم النوع الإنساني أم شخصي لخصوص آدم عليه السلام؟

2 ــ الاستخلاف الشخصي والاستخلاف النوعي :

بالرجوع إلى الآية الكريمة السالفة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (سورة البقرة ، آية 30) ، نجد أن الله تعالى ذكر لفظ "خليفة" للتعبير عن استخلاف آدم عليه السلام، ولكون آدم عليه هو أصل الآدمية في الأرض ، فقد التبس الأمر لدى الكثيرين لتحديد ماهية الاستخلاف، إن كان شخصيا لخصوص آدم أم نوعيا لعموم الإنسان؟.

قد يبدو للبعض أن هذا الجدل بين الفريقين ليس ذو ثمرة عملية ، وهو أمر مجانب للصواب ، لأن نتائج ذلك النقاش هي التي تحدد شكل السلطة في النظرية الدينية ، فلو قلنا أن الاستخلاف شخصي لا نوعي فإن السلطة السياسية في زمن غير المعصوم تصبح في حالة فراغ وبدون ضوابط عقدية ، مما يفتح المجال واسعا أمام الأطر غير الدينية لملأ الفراغ الحاصل بإيديولوجيات منافية لجوهر الدين، أما لو قلنا أن الاستخلاف نوعي لا شخصي فإن السلطة في زمن غيبة المعصوم وغياب من وكله الإمام بشكل شخصي تصبح للأمة ، ويصبح الحاكم مقيدا بولاية الأمة فيما ليس فيه نص شرعي ، لأن الولاية في ذلك لله تعالى ولرسوله وللأئمة من بعده ولخط المرجعية الرشيدة .

وبالعودة إلى ما كتبه السيد الشهيد الصدر رض في بحث (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء)، فإننا نجده قد استظهر مفهوم الاستخلاف النوعي لا الشخصي ، معتبرا أن النوع الإنساني الذي يرمز له آدم عليه السلام هو المستخلف على الأرض وليس خصوص شخصه عليه السلام ، بناء على أمرين اثنين : أولها قوله تعالى (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (سورة فاطر ، الآية : 39) ، حيث أن الله تعالى خاطب الناس واعتبرهم خلائف له في الأرض بصيغة الجمع ، وثانيهما لأن الملائكة لما أثاروا علامة استفهام حول استخلاف آدم ع لم يكونوا بعد يعرفون آدم كي يحكموا على تجربته ، وبالتالي فقولهم أن هذا الكائن الذي سيكون خليفة سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء يدل على سبق معرفة بوجود شبيه بالوجود الآدمي انتهى فيما انتهى إليه إلى تلك المفاسد أو لأنهم نظروا في طبيعة تكوين الخليفة المقبل للأرض ، فاعتبروا أن تكوينه الطيني سيقوده إلى ارتكاب تلك الأفعال الفاسدة ، مما يعني أن الملائكة نظروا في آدم الإنسان لا آدم المسدد من الله والمعلم من قبله ، فأجابهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون .

3 ــ حقيقة الخلافة العامة :

إن الخلافة العامة هي بناء على ما تقدم استخلاف للنوع الإنساني على الأرض، وتعني الخلافة هنا الإنابة عن الله تعالى في تدبير شؤون الأرض وقيادتها وإعمارها بما يرضي المالك الأصلي لهذه الأرض، فالنائب لا يتصرف كما يحلو له في ملك المالك، بل بإذن مسبق منه وتوجيه منه ولو في مستوى الخطوط العامة لجوهر العملية التدبيرية للأرض.

من هنا فإن الإنسان بصفته خليفة الله على أرضه ، هو صاحب السلطة التدبيرية لا التشريعية، لأن التشريع أمر مرتبط بالمالك للأرض وهو من حدده، إذ ليس من موجبات الخلافة الإنسانية أن يحل الإنسان ما حرمه الله ولا أن يحرم ما أحله، فذلك الأمر ليس له، مهما كان موقع ذلك الإنسان ورمزيته وقوته ، فتصرفه يكون فاقدا للشرعية الدينية والأخلاقية معا.

من هذا المنطلق، فإن النظام السياسي في الإسلام ليس "تيوقراطيا" صرفا بحيث يلغي دور الإنسان في ميدان الحكم والتدبير، ولا "ديموقراطيا" صرفا كذلك، بحيث يفوض للبشر حق التشريع المطلق والذي قد يخالف النهج الإلهي .. فالنظام السياسي الإسلامي توفيقي بين حاكمية الله وتدبير الناس، بل هو نظام وسطي بين "التيوقراطية" و"الديموقراطية".

الحلقة (4)

4 – مسألة الحاكمية الإلهية

إن خط الخلافة العامة يقوم على مبدأ أساس ألا وهو مبدأ "الحاكمية الإلهية " ، فالإنسان الخليفة لا يتصرف في المستخلف فيه خارج إرادة المنوب عنه وهو الله تعالى ، لأن العلاقة بين الخالق والمخلوق تتسم بطابع مميّز، حيث إنّ العلاقة هنا في جوهرها علاقة طوليّة والخضوع البشري أمام السلطان الإلهي تشريعيًّا في إحدى مبرراته ينطلق من عمودية هذه العلاقة وفق قانون الخلق والإيجاد من عدمه. لكنّها في مستوى آخر، تستمدّ مبرّرها من حاجة بشريّة لمصدر معرفي يحقق للحياة الإنسانية حالة من الموضوعية والحقانية، وهو أمر يستلزم في أهم اشتراطاته وجود نوع من المفاصلة مع حدود حجب الذات والموضوع. العائق المعرفي الكبير المساهم في إفراز نزعات عقلية قبلية وقصور في الرؤى والتصورات وتأثير النزعات النفسية في صياغة المشهد الفكري والسلوكي للحياة الإنسانية بشكل عام.

فالحاكمية أو السلطان الإلهي تقابل بحالة من الخضوع البشري بسبب وجود دافعين أساسيين: دافع إقرار ما هو كائن من عبودية وتفضل من الخالق بالإيجاد والإنعام، ودافع آخر هو عبارة عن نزعة ذاتية إنسانية متعطشة للمعرفة والارتقاء نحو عوالم الغيب في سبيل التكامل.

من الطبيعي أن الإنسان المتحرر من أعباء الأمانة الإلهية ليجد في مفهوم " الحاكمية الإلهية " عائقا أمام بسط نفوذه وهيمنته ، لذلك تراه يقف في مواجهة المشروع الإسلامي الذي هو منهج حياة لكل الناس ، وقد عملت الكثير من الأنظمة السياسية على مر التاريخ على تبرير هيمنته وتفلتها من القانون الإلهي بشتى الوسائل والأدوات ، بل إنها سخرت الفقهاء لخدمة أغراضها السلطوية ، فبرروا لها وكانوا في طليعة من يحارب الحاكمية الإلهية والمشروع الإسلامي .

وقد وجد في التاريخ الإسلامي من الفقهاء من كان يبرر للحكام ويقف سدا منيعا في وجه المشروع الإسلامي الأصيل لتغييبه عن ساحة الحياة ، تماما كما وجد آخرون رساليون صدعوا بالحق وصبروا على الأذى في سبيل الله ..ومن هؤلاء نجد نموذجين مختلفين من العلماء "كعب الأحبار" مثالا عن فقهاء الحكام و"أبي ذر الغفاري " مثالا عن فقهاء الإسلام .

فق ذكر المسعودي أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه (حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي ثم تلا: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" (سورة البقرة ، الآية : 177).

فقال عثمان: أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا؟ فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي غيب وجهك عني فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان:

إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان في القوم حاجة فاحمله إليك. فكتب إليه عثمان يحمله فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك. فقال: هيهات لن أموت حتى أنفى).

وأيضا روى البلاذري أن أبا ذر كان (ينكر على معاوية أشياء يفعلها وبعث إليه معاوية بثلاث مائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ قبلتها، وإن كانت صلة؟ فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إلي بمال؟ وردها.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية، وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه.

فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه معاوية من سار به الليل والنهار، فلما قدم أبو ذر المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان، وتجمي الحمى، وتقرب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت. فقال: بمكة. فقال: لا. قال: فبيت المقدس. قال: لا. قال: فبأحد المصرين. قال: لا. ولكني مسيرك إلى الربذة. فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات).

إن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان مثالا لـ"فقيه الإسلام" ونموذجا رساليا فذا في وقت كان فيه فقهاء آخرون يوظفون علومهم لخدمة الحكام وإرضاء أهوائهم ، فما بدل فقهاء الإسلام وما غيروا وظلوا حفظة مستأمنين على الخط الرسالي الذي استأمنهم الله ورسوله عليه، إلى أن استشهد منهم من استشهد وبقي منهم من بقي مرابطا بساحة الصراع بين الحق والباطل ، بين الأصيل والدخيل ، بين النهج القويم والنهج المنحرف .. فوصفهم الله تعالى بقوله (منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عليه فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (سورة الأحزاب، آية 23).

( يتبع )

* السيد عصام احميدان الادريسي الحسني

- معتمد ووكيل سابق للمرجع الرسالي السيد محمد حسين فضل الله (رض) بالمغرب .

- حاصل على بكالوريوس القانون العام شعبة العلاقات الدولية من كلية الحقوق بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، المغرب .

- بصدد إعداد رسالة الماجستير في القانون والعلوم الإدارية للتنمية بكلية الحقوق بطنجة ، جامعة عبد الملك السعدي، المغرب .

ـ عضو هيئة أمناء مركز المهدي للدراسات والنشر، وممثله في اوربا وافريقيا.

ـ عضو مؤسس للخط الرسالي بالمغرب. 

- كاتب للعديد من المقالات في صحف مغربية وعربية .