دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين واقعة الخلاف وحقيقة المختلف


لكم تبدو سخيفة تلك الفكرة التي تميل إلى الاعتقاد بأن للحقيقة الدينية وجها واحدا ، وان للواقع السياسي مسارا ثابتا ، وان للوعي الاجتماعي مسلمات مطلقة ، وان للمكون الثقافي تصورات شاملة ، وان للتركيب النفسي مرجعيات متشابهة . حيث ثبت من خلال التجارب التاريخية وعبر براهين الممارسات الواقعية ؛ بأن ليس العالم الطبيعي ونظيره الاجتماعي فقط قائمين على التنوع في أشكالهما التكوينية والتباين في معطياتهما الحضارية فحسب ، بل والأكثر من ذلك إن قائمة لا تقوم لكلا العالمين أو يكون لهما شأن في مجال التأثير الفاعلية بغير تلك الأشكال ودون ذلك التباين . ولهذا فأن معظم المشاكل وأغلب المصاعب التي تعاني منها المجتمعات ذات البنى المتعددة ، مردّها في غالب الأحيان إلى إغفال تلك الحقيقة وتجاهل ذلك الواقع . ومما يزيد الأمور تعقيدا ويفاقم الأوضاع تدهورا ؛ هي حالة فقدان التمييز وانعدام التفريق بين مفهوم ( الخلاف ) الذي ينطوي على معنى التعارض ومدلول الصراع لاسيما في المضامير السياسية والإيديولوجية ، الأمر الذي يستلزم إسهام الفاعلين في الشأن الاجتماعي والمنخرطين في المجال السياسي تضييق مساره ، وتحجيم نطاقه ، وتذليل آثاره ، وعقلنة آلياته من جهة ، وبين مفهوم ( الاختلاف ) الذي هو بمثابة لازمة من لوازم الوجود الاجتماعي ومعطى من معطيات الطبيعة البشرية ، يتعذر بدونه تحقيق التوافق بين أطراف القضية الواحدة والهدف المشترك من جهة أخرى . وعليه فحين يتم التصدي لمعالجة مشكلة من المشاكل أو حلّ معضلة من المعضلات ، لا يتم التعاطي مع هذه أو تلك من منطلق كونها نتاج طبيعي وإفراز متوقع لماهية ( الاختلافات ) القائمة في صلب الواقع الاجتماعي والرابضة في بنية النظام الفكري من جهة ، والمعبرة من جهة أخرى ، عن سيرورته المتأرجحة ما بين إرهاصات مكوناته الاقوامية المتعددة وتفرعات تشكيلاته الحضارية المتنوعة ، بل سرعان ما ترحل ، دون أن يصار إلى تصنيف أنماطها ، ودراسة بواعثها ، وتحليل دوافعها ، إلى أجندة ( الخلافات ) المزدحمة أصلا" بالقضايا العالقة والمحتقنة بالمشاكل المؤجلة ، بحيث تأخذ رغم منشأها الظرفي ومسارها الآني ، طابع الأزمة البنيوية التي لا مجال لانفراجها إلا عبر الصراع الأثني والاحتراب العصبوي بين المجموعات المتباينة من حيث أصولها الاثنية ومرجعياتها الثقافية ومعتقداتها الدينية وطقوسها الطائفية . بمعنى انه يجري التعامل معها وكأنها مظهر من مظاهر الخلاف المستعر بين تلك الجماعات ، وشكل من أشكال تنابذها المتبادل ، بحيث يتعقد الوضع الاجتماعي وتتأزم العلاقات السياسية ، وتتخندق البنى الفكرية ، وتفضي بالتالي إلى شحذ مخيال السيكولوجيات التعصبية ، و تصعيد حدة الصراعات الاثنية ، وتوتير العلاقات البينية ، لا في المجال السياسي الذي هو حاضنة كل خلاف ومبعث كل مشكلة فحسب ، بل وفي المجالات . وهنا تبرز حصيلة الشعوب في بلدان العالم الثالث كنماذج قياسية لمثل تلك الحالات ، الأمر الذي برّر على الدوام ذرائع الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان ، حول استحالة إدخال الإصلاحات السياسية العاجلة ، وسوّغ لها ( ضرورة ) تعطيل المطالب الديمقراطية الملحة ، من منطلق أنها ستسهم في تأجيج نوازع الخصوصية الثقافية  وتسعّر مطامح الاستحواذ والهيمنة العرقية ، وتهدد من ثم مدماك الوحدة الوطنية الموبوءة برواسب الحساسيات المحلية المتراكمة ، ومخلفات العهود الاستعمارية المتوطنة ، التي طالما استخدمت ، من لدن الحكّام الطغاة ، كشمّاعة لتعليق أخطائهم السياسية وتغطية إخفاقاتهم الاقتصادية ، لا بل وحتى تسويق حماقاتهم الشخصية . والحقيقة إن الموقف من الديمقراطية لا يتضمن الرغبة في إضفاء طابع الوحدة الاجتماعية الكاذبة ، والسعي لترسيخ حالة من التجانس السيكولوجي المزعوم بين أفراد المجتمع ، بقدر ما يؤكد على حقيقة إن خصائص التنوع وسمات الاختلاف الموجودة في الجسد الاجتماعي سوف تحظى بكامل إشباعها الحضاري ومطلق تجليها الثقافي ، في إطار من التوافق المصيري المعقلن بين جماعات مختلفة ومكونات متباينة تجمعها وحدة الجغرافيا وشراكة التاريخ وضرورة الاجتماع . ولهذا يرى الأكاديمي ( آلان تورين ) أستاذ السوسيولوجيا الفرنسي بأن الديمقراطية : (( لا يسعها أن تتماهى لا بالتعددية ولا بالتوحيدية . فهي تنبذ بشدّة هاجس الهوية الذي يجعل كل امرئ حبيسا" ضمن طائفة ، ويختزل الحياة المجتمعية إلى حيّز التسامح والتساهل ، مما يدع الساحة المجتمعية مشرعة ، في الواقع ، على كل احتمالات الفرز والتقوقع والحروب المقدسة ، كما تنبذ بالشدّة نفسها تلك الذهنية اليعقوبية التي تتذرّع بالجامعيّة لتقضي على تنوّع المعتقدات والانتماءات والذاكرات الخاصة . إن الثقافة الديمقراطية تتحدّد وتتعرّف بما هي جهد مبذول في سبيل الجمع بين الوحدة والتنوّع ، بين الحرية والتوحيد ))(1) . على إن المفارقة المحزنة في هذا الأمر هو إن الوعي بالاختلاف والإحساس بالتباين لا يتشكل لدى جمهور المجتمع الأهلي ونظيره المدني بصورة عفوية ، وكأنه جزء من غرائزه البيولوجية ، وخصائصه السوسيولوجية ، وسجاياه السيكولوجية. 
بل أنهما حصيلة مورثات اجتماعية مكتسبة تبلورت عنده وتكونت لديه بفعل جملة من الشروط الذاتية والعوامل الموضوعية التي يقع في المقدمة منها ؛ تأثير النخب السياسية وإيحاء المرجعيات الدينية ، التي يبدو أنها ليس فقط تجهل بشكل فاضح جسامة دورها التوجيهي ، وخطورة وظيفتها الإرشادية في خضم تجاذب القوى وتصادم المصالح وتقاطع الأفكار في بنية الواقع الاجتماعي فحسب ، وإنما تنساق بوحي من منافعها الشخصية ودوافعها الفئوية إلى تعميق الخلافات وتوسيع الاختلافات بين أطراف الهدف الواحد والقضية المشتركة . وهنا نمسي – كما يقول أستاذ اجتماعيات المعرفة الدكتور خليل أحمد خليل – (( أمام جمهور ملتبس ، منشطر ، وحتى منفصم من داخله ، حيث تتساكن في أنسجته الاجتماعية البدائية جرثومة العنف وجرثومة الخيال ، مع استبعاد المعرفة النقدية ، وتاليا" استبعاد العلم ألاختباري وكل تقنياته ، كما هو الحال في المجتمعات الحديثة المعاصرة )) (2) . 
وطالما كانت واقعة ( الخلاف ) تتضمن بعدا" سلبيا" غالبا" ما كان سببا" مباشرا" في إلحاق الضرر بالعلاقات الاجتماعية ، سواء أكانت في حالة من التوافق السياسي أو في حالة من التضامن الاجتماعي ، فضلا" عن تسويغها استمرار القطيعة بين الذات والآخر من جانب ، وإسهامها في تشويه صورة الثاني في وعي الأول وبالعكس من جانب آخر ، فقد أقتضى الحال أن يجتهد الفرقاء جميعا" للبحث عن أنجع السبل المتيسرة وأفضل الصيغ المتاحة ، لا في إطار الحدّ من تأثيرات تلك الواقعة وتقليص حجم المشاكل الناجمة عنها فحسب ، وإنما للشروع بمحاولات عقلنة آلياتها وأنسنة أساليبها عبر قنوات الحوار المتبادل والتواصل المستمر من منطلق : (( إن الواقعة الاجتماعية – كما يؤكد الأكاديمي العراقي الراحل الدكتور صادق الأسود – لا تنشأ عن علاقة الإنسان بالطبيعة ، وإنما عن عمل الناس فيما بينهم ))(3) . الأمر الذي يجعلها في خضم حياة المجتمعات الموصومة بأشكال الاختلاف العرقي والتباين الديني والتنوع الثقافي ، ليست مسألة واردة ضمن نطاق جدول أعمالها المشحون بالمشاكل والمعبأ بالأزمات ، بل ومفهومة في وعيها ومشروعة في علاقاتها أيضا". فوزر ( الخلافات ) المنبثقة على أساس تعارض المواقف وتقاطع المصالح وتصارع الأفكار بين تشكيلات المجتمع الاثنية ومكوناته الحضارية ، لا ينبغي أن يقع على طرف بعينه دون الآخر ، كما لا يفترض بجهة واحدة دون غيرها أن تتجشم أعباء وقف التداعيات المتمخضة عنها وتحجيم المضاعفات المترتبة عليها . إذ إن تنصل البعض عن دوره في هذه القضية الإشكالية وتخليه عن تحمل قسطه من المسؤولية ، من شأنه أن يفاقم الأوضاع المتأزمة ويزيد من احتمالات تفجرها . بل إن المنطق يقتضي بأن تبادر كلّ الجهات المعنية إلى إبداء المرونة الفكرية اللازمة إزاء التنازلات المتبادلة الواجب تقديمها ، والركون إلى صيغة مقبولة من التعاون الفاعل فيما بينها ، لتقليص هامش تلك الخلافات والسعي لنزع فتيلها ، ابتغاء ضمان الحدّ الأدنى من العلاقات البينية الطبيعية ، وتأمين المستوى المعقول من الظروف المؤاتية ،وبلوغ الدرجة المناسبة من الأجواء المستقرة ، التي من دونها لا يمكن أن تتاح للجميع فرص المحافظة على حقوقهم السياسية ، وضمان مصالحهم الاقتصادية ، والتعبير عن مواقفهم الفكرية ، بعيدا" عن مظاهر العنف وأشكال العدوان ، حيث الربح يعادل الخسارة في هذا الرهان اللاعقلاني القائم على رفض الآخر واستبعاد المختلف وتهميش المغاير وإقصاء المتعارض . وعلى العكس من ذلك فان متطلبات الوعي الديمقراطي لا تبيح فحسب التعايش مع وجود (الاختلافات) الاجتماعية و(التنوعات) الثقافية و(التمايزات) الدينية التي تزخر بمعطياتها المجتمعات القديمة والحديثة كافة ، بل إنها زيادة على ذلك تشجع على استمرارها فاعلة ومؤثرة في بنية الوجود الاجتماعي من جهة ، وتتصدى لمن يحاول إلغائها أو قولبتها بزعم الضرورات الوطنية والأمنية من جهة أخرى . هذا بالإضافة إلى سعيها المتواصل لتأكيد حضور تلك الاختلافات وبلورة تلك التنوعات وتجسيد تلك التمايزات ، في إطار وحدة الخطاب الوطني وتوافق منظومة القيم المجتمعية ، على خلفية إن النقاء السلالي والتشابه الاعتقادي والتجانس الثقافي لا يعد أمرا" نادر الحدوث في المجتمعات القائمة من حيث أصولها القومية وأرومتها الثقافية فحسب ، وإنما متعذر الوجود ومستحيل التحقق على وفق معطيات الواقع المعاش ، بفعل عمليات التداخل الاقوامي والتمازج الحضاري والتلاقح الثقافي والتشابك التاريخي والحراك الاجتماعي ، لاسيما في عصر التحولات الكبرى والانزياحات الشاملة والتطورات المذهلة . ولهذا فالمسألة – كما يؤكد مجددا"الأكاديمي الفرنسي آلان تورين – (( لم تعد مسألة إلغاء الفروقات المجتمعية والثقافية بموجب إرادة عامة ، بل ، بالعكس ، مسألة رفع التنوع الداخلي في مجتمع ما إلى أقصى الدرجات الممكنة ، والتقدم باتجاه إعادة تركيب ترمي إلى إيجاد عالم جديد والى استعادة ما هو منسي ومهمل . لم تعد المسألة أيضا" مسألة إلغاء الماضي من أجل بناء غد مشرق ، بل مسألة تمكين أنفسنا من العيش في أكبر عدد ممكن من الأزمنة والأمكنة ، واستبدال مونولوغ العقل أو التاريخ أو الأمة بحوار الأفراد والثقافات ))(4) . 
ومن هذا المنطلق فأن حسنات الوعي الديموقراطي وإيجابياته ، لا تقتصر على إتاحة الإمكانية للأفراد والجماعات على حدّ سواء ، لكي يطوروا قدراتهم الذاتية ويفعلوا ممارساتهم في إطار الفرز التمييز بين وقائع ( الخلافات ) وحقائق ( الاختلافات ) التي تسم بمظاهرها الصاخبة معظم أنشطة حياتهم اليومية ، وأشكال علاقاتهم الاجتماعية ،
 وأنماط تشكيلاتهم الطبقية ، وأنساق تعبيراتهم الفكرية ، بحيث يكون بمقدورهم تذليل عواقب الأولى وتأصيل مناقب الثانية فحسب ، وإنما بالإضافة إليه تمتد لتشمل بتغييراتها حقول السيكولوجيا الاجتماعية وعناصر الوعي الجمعي التي استبطنت بفعل عوامل كثيرة وظروف متنوعة ، مشاعر الدونية الحضارية ونكوص الإرادة الذاتية ، والتي طالما لعبت على أوتارها قوى الهيمنة الأجنبية ، بغية تمزيق الوحدة الوطنية ، ونهب الثروات الطبيعية ، واستباحت المعتقدات الروحية ، عبر تسعير الصراعات العرقية ، وتأجيج الفتن الطائفية ، وتغذية النعرات العنصرية . الأمر الذي حمل المفكر السوري ( برهان غليون ) على القول بأن : (( الغزو الغربي الثقافي والسياسي والعسكري والاقتصادي ، استطاع أن يخلق شبه قطيعة ليس بين الأديان المختلفة ، ولكن أيضا" بين المذاهب المختلفة في الدين ذاته ، مقيما" بذلك قاعدة الطائفية كنظام اجتماعي ))(5) . 
وهكذا ، وبخلاف النزعات الطوباوية التي عادة ما تبشر بمبادئ الانصهار القومي والاندغام الثقافي والتنميط الإيديولوجي ، في حين أنها لم تحصد على صعيد الواقع سوى خيبات الأمل ، ولم تنتج على صعيد التجربة إلا الدمار السياسي والفواجع الاجتماعية . فان معايير الوعي الديموقراطي قمينة بحمل العنصر الإنساني على مراعاة قوانين الجدلية الاجتماعية واستيعاب أواليات التطور التاريخي ، من خلال حثها على التعامل مع حصيلة المجتمع المعني لا بصفته الاستاتيكية الشبيهة بحالة ركود المستنقع الذي يختزن كتل هجينة من الكائنات العديمة الملامح والمجردة الهوية والمسلوبة الإرادة . وإنما باعتباره نسيج حيوي من القوى المتنافرة والمصالح المتضاربة والأفكار المتصارعة والعلاقات المتشابكة ، بحيث يستحيل على الباحث في الميدان السوسيولوجي ضبطه في أطر ثابتة وتقييده في بنى ساكنة ، لأجل أن يقال عنه ما يفيد معنى التوحد والتجانس والتناغم . بيد إن ذلك كله لا يبيح للمكونات الاجتماعية المختلفة أن تنتهج التعصب موقفا" في التأكيد على خصائصها النوعية ، وتتخذ من التطرف سلوكا" في علاقاتها البينية مع الآخرين ، وحين ذاك لا يشكل تصرفا" كهذا تخليا" صريحا" عن قيم الديموقراطية الرامية إلى إحلال مبدأ التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وتقسيم مصادر السلطة والثروة بينهم بصورة متكافئة  ، بصرف النظر عن تنوع أصولهم واختلاف مشاربهم فحسب ، وإنما تغدو في الحالة هذه دعوة معممة لتغليب منطق القوة الغاشمة والاحتكام إلى العنف السافر .

المصادر  
1.    آلان تورين ؛ ماهي الديموقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية . ترجمة حسن قبيسي ، بيروت ، دار الساقي ، ط2 ، 2001 ، ص 24 .
2.    خليل أحمد خليل ؛ سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط1 ، 2005 ، ص21 .
3.    صادق الأسود ؛ علم الاجتماع السياسي ، أسسه وأبعاده ، بغداد ، دار الحكمة للطباعة والنشر ، 1990 ، ص100 .
4.    آلان تورين ؛ المصدر ذاته ، ص 246 .
5.    برهان غليون ؛ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات ، بيروت ، دار الطليعة ، ط1 ، 1979 ، ص 32 .