هناك عالم مخفي! هو الجزء الغاطس من جبل الثلج! بل هي الأسرار التي تدفن مع الميتين.. عالم من الألم والخوف والعذابات التي تمر بصمت لا يحس بها غير صاحبها.. عالم تختلط وتندمج فيه الجريمة والغيرة! القسوة والرحمة، النكتة والحزن العميق، الجبن والشجاعة، النخوة والخوف!! الإنتماء والدجل...كل ذلك الخليط الغير متجانس عاشها البعض ومرت بصمت ومبالات ولا مبالات!! يناقض بعضها الاخر، لتنطلق بعد فوات العمر والأوان تدق في الرأس كالمطارق!! كنت جالسا في الردهة أراجع فايلات الجرحى الرافدين بعد أن أنهيت جولتي عليهم.. رن جرس التلفون وكان على الطرف الاخر جندي استعلامات المستشفي وهو يسأل عن جريح إسمه سيد مهدي .. كانوا أهله قد جاءوا يبحثون عنه.. كنت قد أجريت البارحة للسيد عملية بتر لكلتا ساقيه وأصبعين من كفه اليمنى!! كان الجريح يرقد في سريره قريبا مني .. حين سمع التفت الي وناداني بصوت واهن: سيدي أرجوك هل لي بكيسين من القطن!! أمرت الممرض بتلبية طلبه.. كان يلح بأن نسرع بوضع الكيسين تحت غطائه بموازاة فخذيه!! حين وصلوا أهله استقبلهم وهو يحمد الله الذي أنقذه من موت محقق.. كانت القذيفة قد قتلت كل رفاقه الذين كانوا يشاركونه الملجأ!! ، أما هو فقد بترت أصبعيه!! حين غادروا أهله غلبته نوبة من البكاء بصمت وهدوء.... كانت الردهة هادئة كان الجرحى يغطون في نوم عميق .. أيقظني مراسل امر المستشفى من حزني وهو يدفع لي بكتاب عاجل .. تشكيل لجنة تحقيقية كان إسمي من ضمنها للتحقيق مع منتسبي سقيفة الشهداء حول قيام بعضهم بسرقة ممتلكات أولئك الضحايا من ساعات وخواتم و.......!!! بالأمس جئت مسرعا الى الردهة حين استدعيت لمعاينة حالة طارئة.. كان هناك ضابطا قد أصيب بتهشم في مرفقه إثر إصابة بطلق ناري في الجبهة.. لم أجده حيث أخبرت بأنه في دورة المياه!! جاء بعد لحضات وهو يهم بمشيته ساندا ذراعه المصاب بيده الأخرى! .. جلس على طرف السرير بكل شجاعة وهدوء.. كنت قد اطلعت على أشعته وقد بدى لي التهشم الكامل لعظام مرفقه مما يهدد ببتر تلك الذراع!! لم أر أية ملامح خوف أو ألم تبدو على ملامح ذلك الضابط: الملازم الأول عباس مشحوت!! طلبت نقله الى صالة العمليات ... لم أستطع أن أخفي حالة الإستغراب والتعجب من صلابة ذلك الرجل الذي لم يبد أي حالة رفض كنا قد اعتدنا عليها حين نخبر الجريح بأننا قد نبتر طرفه المصاب.. كان قد هز كتفه مستسلما وهو يقول : الذي ترتأونه سيدي!!!! أجابني زميله الضابط الذي كان يرافقه: انه عريف عباس يا سيدي!! كان هنالك مدفعا رباعيا تعود. أن يحصد الكثيرين من جنودنا بين الحين والآخر.. كان يرمي من الساتر المقابل لساترنا.. في ليلة ممطرة أنتفض عريف عباس غاضبا وتناول عمودا وطلب منا أن نستره بوابل من الرصاص !! قفز مدحلبا وهو يجتاز حقل الألغام وأخذ يسير بجانب الساتر المعادي مسرعا حتى وصل المدفع وصاحبه .. قفز وانقض على رأسه بعموده بضربة مجنونة.. ثم عاد بالرشاش بمعجزة غريبة لم نر مثلها طيلة سني الحرب!! أضاف المرافق: لقد كرمته القيادة بمنحه نجمتين .. أضاف بحسرة.. حرامات ،، حرامات ملازم عباس..
|