فقهاء الحكام وفقهاء العوام (8) فقهاء الحكام : قراءة في التجربة الإسلامية.. بقلم/ السيد عصام احميدان الإدريسي

 

 






العراق تايمز: كتب السيد عصام احميدان الادريسي ..

المبحث الثاني : فقهاء الحكام  : قراءة في التجربة الإسلامية :

إن فقهاء الحكام ظاهرة تتخطى الدين الإسلامي وكل الأديان ، وهي ظاهرة بشرية تقوم على أساس هيمنة السلطة على المعرفة ، والسياسة على الدين ، إلى درجة أن أصبح المثقف مدجنا ، وصار عالم الدين موظفا ، وكان المستهدف من ذلك كله المعرفة والدين وأيضا حقوق الله والإنسان .

وسأتناول بالقراءة  نشأة وتطور هذه الظاهرة على مستويين : التجربة الإسلامية التاريخية (الفرع الأول ) ، ثم التجربة الإسلامية المعاصرة ( الفرع الثاني ) .

الفرع الأول : فقهاء الحكام في التجربة الإسلامية التاريخية :

سأتطرق لهذا الموضوع على ضوء التجربة الإسلامية التاريخية  من خلال تحقيب زمني محدد ، ألا وهو : "فقهاء الحكام في العصر الإسلامي الأول" (أولاوهو العصر الممتد من بدء الإسلام إلى سنة 132 ه ، بينما تبدأ الحقبة الثانية من سنة 132 ه أو : " فقهاء الحكام في  العصر الإسلامي الوسيط " (2) .

أولا : فقهاء الحكام في العصر الإسلامي الأول : (شريح القاضي وكعب الأحبار نموذجا)

بالرجوع إلى الحديث السابق الذكر  للإمام علي ع  (ما رواه الكلينى في الكافى في   باب اختلاف الحديث ج 1 ص 62 ،  والصدوق (ره) في الخصال ،  والرضي (ره) في النهج متحدثا عن صنف من أصناف رواة العلم قائلا : (...) إنما أتاك بالحديث أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج  أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا ولو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ولكنهم قالوا: قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه، فأخذوا منه وهم لا يعرفون حاله. وقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين بما أخبر  ووصفهم بأحسن الهيئة فقال: " إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم  " ثم تفرقوا من بعده وبقوا واختلفوا وتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بزور والكذب فولوهم الأعمال والأحكام والقضاء وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا وقد علمت أن الناس مع الملوك أتباع الدنيا  وهي غايتهم التي يطلبون إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة(..) ، نجده قد وصف فقهاء الحكام ودورهم التاريخي في صياغة معالم التجربة الإسلامية .

فالإمام علي ع كان بصدد تبيان سبب اختلاف النقل والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله بين أصحابه ، معتبرا أن ما بأيدي الناس من تراث ديني قد يتم الادعاء بأنه من تفسير القرآن أو السنة النبوية لا يملك الحقانية المطلقة ، حيث قال ع : ".. إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما .." ، وتعود بعض أسباب الاختلاف في الدين الإسلامي الواحد إلى وجود تصرفات في الدين نقلا وفهما بخلاف الواقع والمراد الإلهي والنبوي ، وهي تصرفات إما عمدية أو سهوية ، والأخير منها هو ما حدث بسبب قلة ملازمة البعض للرسول صلى الله عليه وآله حتى أنه كان يأخذ الراوي منهم حديثا ثم لا يسمع من النبي صلى الله عليه وآله ما ينسخه أو يسمع منه حديثا عاما ولا يسمع منه الحديث الخاص ..أما العمدية  من تلك التصرفات فهي من فعل منافقين وجدوا بالصف الإسلامي منذ العصر النبوي ، ومارسوا من الداخل دورا هداما فكانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو بين ظهرانيهم ، حتى أنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام أشار إلى ذلك في الفترة الأخيرة من عمره الشريف حيث ألم به المرض فانتشر وضع الحديث إلى حد شكل ظاهرة استوجبت التدخل النبوي لكشفها وتعريتها ، وهو ما أوضحه علي ع بقوله (..وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته كذبا كثيرا حتى قام خطيبا فقال: " أيها الناس قد كثر علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار " وكذلك كذب عليه بعده ) .

إن هذا الصنف من المنافقين ليس لعوام الناس بل لرواة العلم و ومن يعتقد فيهم الناس المكانة الدينية الرفيعة حيث قال علي ع ( .. ولو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ولكنهم قالوا: قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه، فأخذوا منه وهم لا يعرفون حاله ..) ، ومن ثم فإن تساهل العوام في اختيار الفقيه و التباس حاله عليهم تأثرا بمظاهر خادعة ( .. وقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين بما أخبر  ووصفهم بأحسن الهيئة فقال: " إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) ودعاية باطلة هو ما مكن لبعض الفقهاء من أن يثيروا الفرقة والانقسام بين المسلمين بنشر نصوص مكذوبة أو بتعميم فهم منحرف للدين .

إن هذا الصنف من الفقهاء هو من أثار الفرقة والانقسام بين المسلمين على أساس ديني ومذهبي ، وقد تزايد نشاط هؤلاء  بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله حيث تقربوا إلى كل حاكم جائر فبرروا له ووظفوا علمهم لخدمة مصالحه الدنيوية ، فتم للحاكم توظيف -ما هو ظاهريا من الدين- في خدمة الأغراض السلطوية ، لأن الدين في حد ذاته لا يمكن إلا أن يكون نظاما اجتماعيا عادلا ، وبالتالي فمقولة توظيف الدين لمصلحة السياسة خاطئة ، والتوظيف تم لما اعتقده البعض أنه من الدين في مجال السياسة والتدبير لممارسة العدوان على حقوق الله والإنسان ، حيث قال علي ع في الحديث نفسه ( .. ثم تفرقوا من بعده –أي تفرق المنافقون من رواة العلم  وبقوا واختلفوا وتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بزور والكذب فولوهم الأعمال والأحكام والقضاء وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ..) ، فالغرض الأساس لهؤلاء من الكذب والزور كان هو الدنيا ، وقد تحقق لهم ذلك من خلال تقربهم من حكام الجور ، الذين قربوا علماء السوء فاستعملوهم في المؤسسات الدينية الرسمية ليأكلوا بهم الدنيا .

إن فقهاء السلطان مثلوا أهم أداة لمصادرة حقوق الله والإنسان ، فرأينا كيف أن بعض من تبوأ الصدارة في الحديث ونقل السنة النبوية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ككعب الأحبار وغيره ، كان همهم الأساس التبرير للظلم حفاظا على مكاسبهم الدنيوية ومقاماتهم الدينية الرسمية وواجهاتهم الاجتماعية ..بينما كان هناك عالم من فقهاء الإسلام كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه يحدث الناس بما صح عن رسول الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فلقي ما لقيه من النفي والتشريد لأنه كان صاحب رسالة وموقف ولم يكن ممن يبيع دينه بدنياه .

أ-فقهاء الحكام : شريح القاضي نموذجا :

أيضا نجد فقهاء آخرين اشتهروا في تبعيتهم للحكام وتبريرهم لهم ، ومن هؤلاء (شريح القاضي ) ، وهو : شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي ، وقد عاش 108 سنة ، وتوفي سنة 78 هجرية وقيل سنة 80 هجرية ، ولم يترك القضاء إلا قبل موته بسنة واحدة ، وقد اخترت هذا النموذج في عصر الخلفاء الأربعة لأن الرجل عاصر كل تلك الحقبة واشتهر فيها كفقيه وقاض في فترة خمس خلفاء .

لقد عاش شريح باليمن في مرحلة ما قبل إسلامه محنة الظلم الاجتماعي ، فلما مات والده رمى عمه عباءته على أمه فورثها وصارت في ملكه عملا بعادات جاهلية  ، وقد تعرف على عدل الإسلام من المدرسة العلوية ، حيث أن النبي صلى الله عليه وآله كان قد أرسل عليا ع إلى اليمن لدعوة أهلها للإسلام وإرشادهم ، فأسلم أهل اليمن على يد علي ع وكان منهم شريح ، الذي كان فيما يروى عنه دائم السؤال لعلي ع عن عدالة النظام الاجتماعي في الإسلام المحمدي .

تمت تولية شريح لمنصب ( قاضي الكوفة ) في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، واستمر في منصبه ذلك إلى ما قبل وفاته بسنة حيث طلب التنحي عن القضاء ..وقد كان شريح مطلق اليد في القضاء إلى أن تولى الخلافة الإمام علي بن أبي طالب ع الذي كان له العديد من الملاحظات النقدية  على قضائه ، فأبقاه الإمام علي ع في منصب القضاء معلقا تنفيذ أحكامه على رقابته ، فقد ورد في الكافي للشيخ الكليني : (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ولى أمير المؤمنين صلوات الله عليه شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه ) .

أيضا بلغ عليا ع أن شريح يقضى لبعض المتخاصمين في داره ، فأمره أن يخرج للناس في المسجد الجامع ويجلس بينهم قاضيا في النزاعات التي تحل بينهم ، فقد جاء في (دعائم الإسلام  ج 2 ، ص 534 : عن علي عليه السلام أنه بلغه أن شريحا يقضى في بيته فقال يا شريح اجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس وإنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته) (جامع أحاديث الشيعة ، السيد البروجردي ، الجزء 25 ، الصفحة 40 ) .

 وقد جاء فيه ما نقله قال ابن الأثير في (حوادث سنة 51 ) أن زياد بن سمية لما بعث بحجر وأصحابه إلى معاوية دعا رؤساء الأرباع وهم عمرو بن حريث وخالد بن عرفطة وقيس بن الوليد وأبا بردة بن أبي موسى...

 واستشهدهم أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب.. ووثب بالمصر واخرج عامل الخليفة وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وان هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه على مثل رأيه ونظر زياد في شهادة الشهود وقال أحب ان يكونوا أكثر من أربعة فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد وغيرهم...

وكتب في الشهود شريح القاضي وشريح بن هانئ أي كتبت شهادتهما ولم يكتباها هما فأما شريح بن هانئ فكان يقول ما شهدت وقد لمته فلما بلغ حجر وأصحابه الغريين لحقهم شريح بن هانئ وأعطى كتابا إلى وائل أحد الرجلين الموكلين بهم وقال أبلغه أمير المؤمنين فدفعه وائل إلى معاوية فإذا فيه بلغني أن زيادا كتب شهادتي وأن شهادتي على حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حرام الدم والمال فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه فقال معاوية ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم ، أما شريح القاضي فأبى له سوء طويته إلا أن يسكت عن الشهادة التي كتبت بدون علمه...) 

يتبين مما ذكر أن شريح القاضي الذي عانى الظلم و بهرته عدالة النظام الاجتماعي الإسلامي وجعلته يلتحق بالصف الإسلامي ، سرعان ما تحول إلى فقيه يكتم الحق ويتعالى عن الناس ويتقرب إلى حكام عصره ويبرر لهم أفدح الجرائم  ، فأصبح بذلك أداة دينية لشرعنة الفساد والاستبداد .

( يتبع )