فقهاء الحكام وفقهاء العوام (9) فقهاء الحكام : كعب الأحبار نموذجا.. بقلم/ عصام احميدان الإدريسي |
العراق تايمز: كتب السيد عصام احميدان الادريسي.. ب-فقهاء الحكام : كعب الأحبار نموذجا كعب بن ماتع الحِميّري ويكنى بأبي إسحق كان عالماً بالإسرائيليات وتفسير آيات القرآن ( طبقات ابن سعد ، الجزء السابع ، القسم الثاني ، الصفحة 117 ) ، أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقدم من اليمن إلى المدينة في فترة خلافة عمر بن الخطاب، فشرع في نشر التراث الإسرائيلي بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث ورد في طبقات ابن سعد : (..عن رجل دخل المسجد ، فإذا عامر بن عبدالله بن عبد القيس جالس إلى كعب ، وبينهما سفر من أسفار التوراة ، وكعب يقرأ) ، حتى أخذ مكانة بارزة لدى بعضهم ( .. أنّ أبا هريرة قال لكعب : إنني جئتك لأطلب عندك العلم ، واستقي من معينك الغزير ..) . قربه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وسمح له بأن يروي القصص الإسرائيلية على الناس ، ونال شهرة كبيرة بين الأصحاب ، حتى أن بعض مروياته الإسرائيلية دخلت السنة النبوية وألحقت بالأحاديث النبوية الشريفة ، فقد جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، 8-109 : (عن مسلم بن حجاج قال: اتقوا الله وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحدث عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا: يجعل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . قال الذهبي في تذكرة الحفاظ:1/52: ( هو كعب بن ماتع الحميري، من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب، أسلم في زمن أبي بكر، وقدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة ، وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين مرسلاً، وله شئ في صحيح البخاري وغيره ) . أيضا قال بن كثير (..لما أسلم كعب في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين ..) (تفسير ابن كثير 4 / 17 ) ، وقد منعه الخليفة الثاني من الحديث النبوي قائلا له ( ولتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة ) وهو شبيه بمنعه لأبي هريرة من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله قائلا له ( لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس ) ، وسمح له بأن يروي القصص والأساطير، غير أنه كان يستشار من قبل بعض الخلفاء كالخليفة الثاني والثالث وأيضا من قبل معاوية ، حيث قربه منه وفتح له المجال بالشام كي يواصل نشر التراث الإسرائيلي . ورد في طبقات ابن سعد وعن نعيم بن حماد وغيره ما يفيد أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان يستحسن النظام الملكي على نظام الخلافة ، وتردد بين أن يطلق على نفسه لفظ ( ملك ) أو لفظ ( خليفة ) ، فسأل كعب الأحبار وغيره فلما رأى أن الاتجاه العام غير مقتنع بفكرة الملوكية رجع عن فكرته ، فجوابا على سؤال لعمر بن الخطاب إن كان ملكا أو خليفة (.. قال كعب : أشهد أنك خليفة ولست بملك فقال له عمر وكيف ذاك ؟ قال : أجدك في كتاب الله ، قال عمر : تجدني باسمي ؟ قال : لا ولكن بنعتك أجد : نبوة ثم خلافة ورحمة على منهاج نبوة ، ثم خلافة ورحمة على منهاج نبوة ، ثم ملكاً عضوضاً ـ نعيم بن حماد في الفتن ) ، وأيضا ورد (.. عن كعب أن عمر بن الخطاب قال : أنشدك بالله يا كعب ! أتجدني خليفة أم ملكاً ؟ قال : بل خليفة : فاستحلفه فقال كعب : خليفة والله ! من خير الخلفاء ، وزمانك خير زمان ـ نعيم بن حماد في الفتن) . كما أن الخليفة الثاني كان يتوجه ببعض الأسئلة الدينية لكعب الأحبار ، فقد روى السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 57 ( عن الحسن البصري أن عمر قال لكعب : ما عدن ؟ قال هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حاكم ) ( الدر المنثور ، السيوطي ، الجزء 4 ، ص 57 ) وأيضا ورد في نفس المصدر بالجزء 4 ، الصفحة 57 ، وورد أيضا بنفس المعنى في كنز العمال ، الجزء 12 ، الصفحة 561 . لقد تطورت مكانة كعب الأحبار لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله بل إنه حظي بمكانة أيضا لدى بعض نسائه ، فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 ص 331 : (.. عن عبدالله بن الحرث قال كنت عند عائشة وعندها كعب الأحبار فذكر إسرافيل فقالت عائشة : يا كعب أخبرني عن إسرافيل ؟ فقال كعب : عندكم العلم قالت أجل ، قالت فأخبرني . قال : له أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسربل به وجناح على كاهله والقلم على أذنه ، فإذا نزل الوحي كتب القلم ، ثم درست الملائكة وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب للأخرى فالتقم الصور محنى ظهره وقد أمر إذا رأى اسرافيل قد ضم جناحه أن ينفخ في الصور !! فقالت عائشة : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ! رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ) ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 338 ، وقال ( وأخرج عبد بن حميد والطبراني في الأوسط بسند حسن ) . رغم أن المجال كان مفتوحا أمام كعب الأحبار ليحدث الناس بالقصص والأساطير في العهد العمري ، غير أن هناك قراءات كثيرة تذهب إلى كونه كان شريكا في مؤامرة اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب ، ولم يستطع كتمان السر فحدث عمر بن الخطاب عن مصيره بطريقة توحي بكونه ذو اطلاع واسع على الغيبيات ، فقد ورد في( تاريخ المدينة / ج: 3 ص : 891 ) ما يلي : (حدثنا محمد بن يحيى بن علي المدني قال ، حدثني عبد العزيز ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني عبد الله بن زيد ابن أسلم ، عن أبيه ، عن جده قال : لما قدم عمر رضي الله عنه من مكة في آخر حجة حجها أتاه كعب فقال : يا أمير المؤمنين ، اعهد فإنك ميت في عامك ، قال عمر رضي الله عنه : وما يدريك يا كعب ؟ قال : وجدته في كتاب الله . قال أنشدك الله يا كعب هل وجدتني باسمي ونسبي ، عمر بن الخطاب ؟ قال : اللهمَّ لا، ولكني وجدت صفتك وسيرتك وعملك وزمانك . فلما أصبح الغد غدا عليه كعب فقال عمر رضي الله عنه : يا كعب فقال كعب : بقيت ليلتان ، فلما أصبح الغد غدا عليه كعب قال عبد العزيز : فأخبرني عاصم بن عمر بن عبيد الله بن عمر قال : قال عمر رضي الله عنه :. يواعـدني كعـبٌ ثلاثاً يعـدُّها ولا شكَّ أن القولَ ما قاله كعبُ وما بي لقاء الموت إني لميـت ولكنَّمـا في الذنـبِ يتبعُـه الذنبُ فلما طعن عمر رضي الله عنه دخل عليه كعب فقال : ألم أنهك ؟ قال : بلى ، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا ، ومن الواضح من خلال النص المذكور وغيره أن كعب الأحبار كان مرتبطا بشبكة سرية تعمل من أجل نقل السلطة إلى البيت الأموي . وما أن قتل عمر بن الخطاب وانتقلت الخلافة إلى البيت البيت الأموي حتى اجتمع بنو أمية في دار عثمان لتهنئته والتخطيط للمرحلة الموالية ، فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد – الجزء: 9 - رقم الصفحة: 53 ) : (قال الشعبى : فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ ، قالوا : لا ، قال : يا بنى أمية ، تلقفوها تلقف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ! قال : فانتهره عثمان ، وساءه بما قال : وأمر بإخراجه ) ( وقد ورد كذلك مماثلا في : تاريخ أبي الفداء - أحداث سنة مئتين وثلاثة وثمانون 30 من 87)، وفي : الطبري - تاريخ الطبري - الجزء : 8 - رقم الصفحة : 185 ، وفي غيره من المصادر ) . تبوأ كعب الأحبار في عهد عثمان بن عفان مكانته الدينية لا فقط كقصاص للقصص والأساطير الإسرائيلية بل كمحدث وفقيه من فقهاء الحاكم ، فلقي مواجهة قوية من بعض كبار الصحابة وأنصار أهل البيت ع وخاصة الصحابي الجليل والفقيه الرسالي أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، فقد روى ابن الأثير أنّ ( أبا ذر قال: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف، ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا الأقرباء. فقال كعب الأحبار ـ وكان حاضراً ـ من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه ، فضربه أبو ذر فشجَّه، وقال له: يا ابن اليهودية، ما أنت، وما هاهنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجّته، فوهبه ) ( ورد في : الكامل في التاريخ، ابن الأثير 3 / 115، تاريخ الطبري 4 / 283 ـ 284، البداية والنهاية، ابن كثير 7 / 170 ) . إننا نلاحظ أن كعب الأحبار قد أصبح فقيها مفتيا في الدين الإسلامي ، يحدث الناس بأحكام مخالفة لجوهر الإسلام المحمدي الأصيل ، فتصدى له الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ، وهي مواجهة واحدة من سلسلة مواجهات بين صنفين من الفقهاء : فقهاء الحكام وفقهاء الإسلام ، فقد جاء أيضا في شرح نهج البلاغة عن ابن أبي الحديد 8 / 252 ـ 256 : (قال عثمان يوماً (والناس حوله): أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك،فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين، أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، وتولّعك بأصحابي، إلحق بالشام، فأخرجه إليها ) . في الوقت الذي كان فيه كعب الأحبار مقربا من بني أمية متنعما في فترة خلافة عثمان وأيضا لما انتقل للشام بدعوة من معاوية ، كان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يحاصر ويجوع ويشرد وينفى من بلد إلى بلد ، حتى أن أبا ذر رض كان يقول (إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها والفقر أحبّ إليّ من الغنى) . ما أن اندلعت الثورة على الخليفة الثالث وقتل ، حتى شرع كعب الأحبار يبحث له عن تموقع سياسي يخدم مصالحه الدنيوية ، فقد روى وكيع عن الأعمش، عن أبي صالح[1] أنّ الحادي كان يحدو بعثمان يقول: إنَّ الاَمِـيـرَ بَـعْـدَهُ عَـلِـيٌّ وَفِي الزُّبَيْـرِ خُلُقٌ رَضِـيٌّ فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء ! ( يعني معاوية ) ، وكان يراه يركب بغلة. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق ما تقول هذا !! وها هنا عليّ والزبير وأصحاب محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم ! قال: أنت صاحبها. ولعلّه أردف ذلك بقوله: إنّي وجدتُ ذلك في الكتاب الاوّل ) (النزاع والتخاصم فيما بين بني أُميّة وبني هاشم للمقريزيّ، ص 51 ) . لقد كافأ معاوية بن أبي سفيان كعب الأحبار بأن أمره بأن يقص الأقاصيص الإسرائيلية في الشام وهو بحسب ما ذكره ابن حجر العسقلانيّ في " الإصابة " بأنّ معاوية هو الذي أمر كعباً بأن يقصّ في الشام (الإصابة، ج 5، ص 323 ) . لقد مثل كعب الأحبار نموذجا لفقهاء الحكام في العصر الإسلامي الأول ، وعمل كل ما في وسعه لشرعنة تصرفات الحاكم وتبرير منطق الفساد المالي ومراكمة الثروة على حساب المستضعفين الذين ازدادوا فقرا كلما ازدادت أقلية اجتماعية في الغنى ، فحرفوا وبدلوا في أحكام الإسلام وجعلوا الدين في خدمة المستبدين والفاسدين ، حتى ظن الجاهلون أن الدين هو أداة لاستغلال المستضعفين وتكريس هيمنة المستكبرين ..والحق أن يقال أن الدين هو رسالة تنوير وتغيير وتحرير ، لكن فقهاء الحكام تحملوا المسؤولية في صناعة دين آخر غير دين الإسلام وجعلوه أداة طيعة في يد المستبدين والفاسدين .
* السيد عصام احميدان الادريسي الحسني
- معتمد ووكيل سابق للمرجع الرسالي السيد محمد حسين فضل الله (رض) بالمغرب .
- حاصل على بكالوريوس القانون العام شعبة العلاقات الدولية من كلية الحقوق بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، المغرب .
- بصدد إعداد رسالة الماجستير في القانون والعلوم الإدارية للتنمية بكلية الحقوق بطنجة ، جامعة عبد الملك السعدي، المغرب .
ـ عضو مؤسس للخط الرسالي بالمغرب.
- كاتب للعديد من المقالات في صحف مغربية وعربية .
|