مقدمة
إن دراسة النظرية الموسيقية للشاعر ضرورة ملحَّة؛ إذ تدخل الموسيقى في صلب الإبداع الشعري العربي بوصفها ذات جوانب عديدة فاعلة في تكوين النص. وتأتي أهمية هذا البحث في أنه يدرس عروض شعر المتنبي، وهو ما لم تعنَ به دراسات المتنبي، مما يجعله إضافة مهمة في إعداد تصور شامل لفنِّه الشعري.
يدرس البحث البحور التي استعملها المتنبي في شعره، وتسلسلها في الأهمية في ضوء الموضوعات الشعرية. وهو يركز على اجتهاد المتنبي في كل تصرف موسيقي في شعره. ونحن نجد المتنبي بين اتباع القديم ومتابعة الجديد، او بين التقليد والتجديد؛ فقد جاء العصر العباسي - نتيجة الاحتكاك والملاقحة – بفرضية نغمية اقتضت إضافة بحور جديدة وتعديل استعمال بحور قديمة، مما فتح باب الاجتهاد بين الشعراء.
وكان المتنبي - ذو الثقافة المزدوجة: البدوية مصاحبة والحضرية تعلماً – يمزج بين أسلوب القدماء وتجاريب المحدثين، مما جعله أسير الأسلوب القديم حيناً ومحاولة التخلص من إساره والعمل وفق الأسلوب الحديث حيناً آخر. وكانت الأوزان الشعرية رافداً مهماً من روافد الأسلوب الشعري، لذا اعتنى بها المتنبي عناية شديدة وهو يرسم أسلوبه المتفرد.
وهكذا نجده أحياناً يشبه القدماء في تقديم وتأخير البحور، وفي اختصاصها بأغرض معينة . ونجده أحياناً أخرى يخالفهم ويتابع معاصريه العباسيين. وفي حالة ثالثة نجده يجتهد بعيداً عن القدماء والمولدين في البحور. وقد غطى البحث كل البحور التي استعملها المتنبي وأعطى موقف المتنبي الموسيقي منها.
استعرض البحث أشعار المتنبي التي كتبها على بحوره حسب الموضوعات، للوصول إلى استصدار حكم موسيقي يلقي الضوء على جوانب لم تستطع الدراسات الأدبية الأخرى إضاءتها في رسم شخصية المتنبي الفنية. ونحن إذ نقدم هذا البحث، نأمل أن يكون إضافة نوعية إلى دراسات شعر المتنبي لإعداد تقييم شامل لتجربته الشعرية الفذة. ندعو الله التوفيق ونسأله النجاح، انه ولي العاملين.
البحور العربية
كتب المتنبي (5578) بيتاً في (323)(1) قصيدة ومقطّعة، موزعة على أحد عشر بحراً هي حسب كمية الأشعار في ديوانه الشامل: الطويل: (1536) بيتاً، الكامل (943) بيتاً، البسيط: (837) بيتاً، الوافر (790) بيتاً، الخفيف (509) بيتاً، المنسرح (367)، المتقارب (315) بيتاً، الرجز (159) بيتاً، السريع (60) بيتاً، المجتث (39) بيتاً، الرمل (14) بيتاً.
فيكون قد استعمل من البحور العربية الجاهلية عشرة من أصل اثني عشر مستبعداً: المديد والهزج. أما البحور العروضية العباسية الأربعة (المستحدثة) فاستعمل منها بحرا واحداً: المجتث، واستبعد الثلاثة الباقية: المضارع، المقتضب، والمتدارك.
المقطعات
المقطعات الشعرية – كما نرى - إسلامية المولد إسلامية الفن، فالجاهليون لم يكتبوها؛ لأنهم يرون الشعر إما قصيداً يحتاج إلى نفـَس فني طويل، أو رجزاً يكون قصيراً للمعركة أو المواقف الآنية. ولما كتب غير الشعراء الشعر في زمن الرسول () وبعده للأجر والثواب، لم يحسنوا في الطول فآثروا المقطعات ثم ازدهرت في العصر الأموي في الغناء. ولما جاء العصر العباسي اهتم بها الشعراء بشكل خاص؛ إذ أفردوا موضوعات مفرَّعة عن الأغراض التقليدية بمقطوعات شعرية مستقلة في تصوير: الكرم، الحلم، الحياء، العفة، الصبر(2)... حتى كأن المقطوعة قصيدة مختزلة ذات موضوع واحد. وصار على كل شاعر أن يجيد الأشكال الثلاثة: القصيد، الرجز، المقطعات، وقد أورد ابن رشيق القيرواني " والشاعر إذا قطَّع وقصَّد ورجَز فهو الكامل(3). لذا أفرط المتنبي في كتابة المقطعات حتى جعلها مساوية تقريباً لعدد القصائد: فالمقطعات (156) والقصائد (159)!
البحور الأولى
يتفق المتنبي مع الشعراء العرب القدامى في نسق البحور من حيث كثرة الاستعمال؛ إذ يتصدر الطويل القائمة. وعلى هذا النسق غالبية الشعر الجاهلي والأموي. ثم يتلوه الكامل فالبسيط فالوافر. وبصعود الكامل تالياً للطويل يخالف المتنبي القاعدة الموسيقية العربية المتوارثة؛ فامرؤ القيس تسلسل بحوره الأربعة: الطويل، الوافر، الكامل لعدم وجود شعر له على البسيط، والأعشى الطويل، البسيط، الوافر، الكامل، وجرير: الطويل، البسيط، الوافر، الكامل، والفرزدق: الطويل، البسيط، الوافر، الكامل.
والمتنبي بمخالفته في بحر الكامل يجاري الذوق الموسيقي العباسي الذي أعطى للكامل أهمية واضحة، ولعلَّ الخليل أطلق عليه الكامل لملاءمته ذوق عصره، وتفوقه على البحور في عدد الحركات؛ ففيه ثلاثون حركة لم تجمع في غيره(4). فهو البحر الأول في استعمال أبي تمام ويأتي الطويل بعده، وفي شعر البحتري وأبي نواس يأتي في التسلسل الثاني بعد الطويل كما في شعر المتنبي. مما يقنعنا بأن المتنبي خالف العرب وجارى عصره في ترتيب الكامل نغمياً.
بحور المدح
المتنبي سيد القصيدة المدحية (الرسمية). وقصيدة المدح هي التي ترتِّب الشاعر حسب الأهمية، فإذا أحجم الشاعر عن المدح أو لم يُجده لم ينل كفايته من الشهرة، ولذا كتب أبو العلاء المعري مدائح في مطلع حياته الفنية في ديوانه (سِقط الزند) وبعد أن أشَّر نفسه وتفوقه كتب بطريقته وذوقه. وإذا لم يكتب العباس بن الأحنف قصيدة المدح، فانه كان شاعر غرام الخلافة(5). وللسبب نفسه تأخر شعراء جيدون لم يجيدوا كتابة قصيدة المدح كعبد المحسن الصوري وغيره.
وإذا راجعنا قصائد مدح المتنبي وجدناه يرشح لها سبعة بحور فقط هي حسب التسلسل: الطويل نحو (33) قصيدة مدح، الكامل: (21)، البسيط: (14)، الوافر: (14)، الخفيف: (10)، المنسرح: (9). وهذه بحور مدح في الشعر العربي متفق عليها، وتتسم بجدية ورصانة وأبهة النغم على تفاوت. وقد كتب عليها المتنبي مختارات مدائحه.
أما البحر السابع فهو المتقارب، وهو قليل الجدوى في المدح. والشعراء فيه مختلفو الاستعمال؛ فقد كتب عليه الأعشى ثماني مدحيات بينما كتب عليه زهير مدحية واحدة. ولم يكتب عليه جرير والفرزدق مدحيات بل نقائض. وفي العصر العباسي كتب عليه البحتري تسع مدحيات، بينما كتب عليه أبو تمام مدحية واحدة من تسع أبيات فقط.
وكان المتقارب في نظر المتنبي لا يصلح كثيراً للمدح، وقد كتب عليه أربع مدحيات لا تستحق العناية فهي ليست من مختاراته في المدح، وأفضلهن التي في سيف الدولة وأولها:
إِلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ وَلا رَأيَ في الحُبِّ لِلعاقِلِ(6)
ولم تكن بذات فضل، وعدها عبد الله المجذوب غير حسنة(7). إلا ان المتنبي منح المتقارب أهمية أخرى كما سنرى.
السريع والرمل
السريع
وهو بحر كاسمه يسرع على اللسان(8)، وبينه وبين الرجز سبب خفيف ناقص، لذا عدَّه عبد الله المجذوب معدولاً عن الرجز(9). وقد جعلته نغمته أكثر شعرية من الرجز، كما أعطته ميزته الرجزية اتساعه لكثرة زحافاته، لذا اختاره أحمد رامي في ترجمة رباعيات الخيام لأنه يتيح له استعمالاً أوسع في الألفاظ، مع الرشاقة الموسيقية في البحر.
وهو من البحور قليلة الاستعمال الشعري، أو من البحور الثانوية في الشعر القديم والإسلامي والحديث؛ فالأعشى كتب عليه قصيدتين، ولم يكتب عليه جرير والفرزدق شيئاً، وكتب عليه أبو تمام ثلاث قصائد، والبحتري أربع قصائد. وكتب عليه علي محمود طه قصيدتين موحدتي القافية، وخمساً طويلة متنوعة القوافي، وشوقي خمس قصائد.
ولم يخرج المتنبي عن ذلك فقد كتب عليه قصيدتين: الأولى طويلة في رثاء عمة عضد الدولة ومنها:
آخِرُ ما المَلكُ مُعَزّى بِهِ هَذا الَّذي أَثَّرَ في قَلبِهِ
لا جَزَعاً بَل أَنَفاً شابَهُ أَن يَقدِرَ الدَهرُ عَلى غَصبِهِ
لَو دَرَتِ الدُنيا بِما عِندَهُ لَاِستَحيَتِ الأَيّامُ مِن عَتبِهِ
لَعَلَّها تَحسَبُ أَنَّ الَّذي لَيسَ لَدَيهِ لَيسَ مِن حِزبِهِ
وَأَنَّ مَن بَغدادُ دارٌ لَهُ لَيسَ مُقيماً في ذَرى عَضبِهِ(10)
والثانية قصيرة في هجاء كافور، كما كتب عليه ست مقطعات في أغراض آنية. وبهذا فهو لم يجده يصلح لغرض أساسي كالمدح لعدم فخامة موسيقاه، ولم يجد نغمته تسعفه في كتابة شعر كثير عليه.
الرمل
من البحور الطربة التي تصلح للغناء كثيراً، وهو ما يثبته الشعر المغنى المكتوب عليه في القديم والحديث؛ فقد كتب عليه عمر بن أبي ربيعة سبعاً وعشرين قصيدة ومقطّعة، وكتب عليه إبراهيم ناجي قصائد كثيرة أهمها (الأطلال)، والتزمته موشحات كثيرة في الأندلس والمشرق. والذي يجعله بحراً غنائياً بتميز انه يتكون من تكرار نغمتين قصيرتين بينهما نغمة متوسطة (تم تتم تم = فاعلاتن) فهو يشبه النقر المرقص على الدف. وهو لا يرهق السمع والنفس لخلوه من النغمة الطويلة(11). ووصف عبد الله المجذوب نغمته بأنها ترنمية رفيقة فيها تأمل حزين (منخوليا)(12).
ولكون المتنبي جاداً وصاحب طموح ينأى به عن طلب اللهو، لم يجد في الرمل مأرباً وبالتالي لم يستعمله إلا في قصيدة قصيرة (تجريبية) قالها ارتجالاً، ومقطعتين من خمسة أبيات. أما قصيدته فكانت تجريبية بحق لأنه استعمل فاعلاتن تامة في الصدر ولم يرد هذا في أشعار العرب إلا في التصريع(13) وعدَّ من العيوب عليه(14)، ومنها قوله:
إِنَّما بَدرُ بنُ عَمّارٍ سَحابُ هَطِلٌ فيهِ ثَوابٌ وَعِقابُ
إِنَّما بَدرٌ رَزايا وَعَطايا وَمَنايا وَطِعانٌ وَضِرابُ
طاعِنُ الفُرسانِ في الأَحداقِ شَزراً وَعَجاجُ الحَربِ لِلشَمسِ نِقابُ
لَيسَ بِالمُنكَرِ إِن بَرَّزتَ سَبقاً غَيرُ مَدفوعٍ عَنِ السَبقِ العِرابُ(15)
ونرى أنه أراد أن يروِّضه للمديح البطولي فظنَّ أن إيراده تاماً بهذه الصورة يخلصه من صفة الغناء، إلا انه لم يقنع به فلم يعاود الكرَّة.
ونخلص إلى أن بحري: السريع والرمل بحران لم يعبأ بهما المتنبي، فجاءا في ذيل قائمة بحوره. وما كتبه عليهما ليس ضمن المختار من شعره، وكأنه أراد أن يكتب عليهما شيئاً فحسب.
الرجز
استعمل الجاهليون الرجز بحرا ارتجالياً: في المعارك والحاجات اليومية وهما غير شعريين، فالرجز عند الجاهليين وزن شعبي(16) يصلح للنظم فقط ولا يرتفع إلى الاحترام الفني، ولا يعتد به في تقييم الفحولة. وقد أنكر الاخفش عدّ الرجز شعراً واحتج به على فساد مذهب الخليل في انه شعر، مستدلا على هذا بالرجز الذي قاله الرسول الكريم () لقوله () (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)(17).
والسبب الذي جعل الجاهليين لا يكتبون عليه قريضاً كثرة التجوز فيه؛ فتفعيلته – كما رصدها الفراهيدي - (مستفعلن) تأخذ أربع حالات في الزحافات: أصلية (مستفعلن)، ومخبونة (مُتـَفْعـِلُنْ)، ومطوية (مُـسـْتـَعـِلـُنْ)، ومخبولة (مُتـَعـِلُنْ)، وحالتين في العلل: مقطوعة (مستفعلْ)، ومخبونة مقطوعة (فعولن). وهذا التجوز الكثير جعل أبياته قليلة الموسيقى قريبة من النثر والكلام الاعتيادي، على الضد من البحور قليلة الزحاف، إذ يحصنها ذلك من السقوط في مهاوي النثر ويثبتها على مستوى نغمي راق.
ثم طوِّل الرجز في العصر الأموي قال ابن رشيق: " قال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصَّده، ونسَّب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء... وقال غيره: أول من طول الرجز الأغلب العجلي..."(18). وهكذا ظهرت الأراجيز منذ العصر الأموي وازدهرت تباعاً.
ولما جاء العصر العباسي وأنشئ شعر فارسي على غرار الشعر العربي(19)، لم يجمد الفرس على القوالب العربية، بل عملوا على الرقي بشعرهم ومنافسة الشعر العربي. وبالفعل استطاعوا أن يجعلوا له خصوصية وتفرداً؛ فزادوا في الأوزان ، وأضافوا تفعيلات إلى البحور العربية، ونوَّعوا في القوافي. وقد نقلت بعض أوزانهم المبتدعة إلى الشعر العربي وهي: المضارع والدوبيت والمقتضب والخبب. واندفع الشعراء العباسيون يجربون ويضيفون في الأوزان، فكتبوا قصائد على بحر الرجز ومنحوه الشعرية: أبو تمام كتب عليه قصيدة واحدة فقط، البحتري قصيدة واحدة وقطعتين، ابن المعتز أربع قصائد وخمس عشرة مقطّعة، ابن الرومي خمس قصائد وإحدى عشرة مقطّعة. وتزيد الكتابة عليه كلما أوغلنا في الزمان الى العصر الحديث. ووجدت قلة من الشعراء استمرت في عدم الاعتراف به قريضاً فاستعملته أراجيز على الطريقة الأموية وللمواقف والحالات اليومية.
وأثبت المتنبي في ديوانه التزامه التام بالطريقة الجاهلية في استعمال الرجز، مضيفاً الطريقة الأموية في تطويل الرجز إلى أراجيز، عدا ثلاثة أبيات كتبها قريضية لم يتحرر بها نهائياً من طبيعة الرجز لأنه قالها ارتجالاً. وفي ديوانه تسعة أعمال رجزية موزعة على (أربع أراجيز) و(خمسة مواقف آنية).
أراجيزه
صارت الأراجيز ميداناً آخر على الشاعر العباسي أن يتقدم فيه. وفي دواوينهم أراجيز تؤكد ذلك. وقد جارى أبو الطيب شعراء عصره في هذا المنحى، وحتما كان يستظهر أراجيز كثيرة ويحفظ خزيناً جزلا من الألفاظ والقوافي تمكنه من إنشاء أرجوزة بسهولة تامة وفي أي وقت مع عدم رغبته في الصيد والطرد حيث تقتضي الأرجوزة؛ ذلك لأنها لا تقتضي الاستغراق في الخيال ولا التعمق في المعاني. وهو ما تؤكده قصة في ديوانه مفادها أن أبا علي الاوراجي جاء من رحلة صيد وطرد فقال للمتنبي: وددت لو كنت معنا.. ووصف له الرحلة وكيف طارد ظبياً بكلب من دون صقر، فقال المتنبي: أنا قليل الرغبة في مثل هذا، فقال أبو علي الاوراجي: إنما اشتهيت أن تراه فتستحسنه، فتقول فيه شيئاً من الشعر، فقال المتنبي: أنا افعل، أفتحب أن يكون الآن، فقال الاوراجي: أيمكن مثل هذا؟!! ثم انطلق المتنبي ينشد أرجوزته(20).
كتب المتنبي أربع أراجيز لم يُخلها تماماً من روح القصيدة. وكانت أقربها لفن الأرجوزة وأجملها التي وصف فيها فرسه ومهرها الطخرور وهي من (29) بيتاً. ويبدو واضحا انه شاهد المروج والحدائق التي وصفها وصفا أخاذا حيث رعت الفرس ومهرها. وفي الأرجوزة نرى أفانين الألفاظ وتلاوين القوافي الجميلة وكأنها مهرجان ربيع شعري. وهي التي مطلعها:
ما لِلمُروجِ الخُضرِ وَالحَدائِقِ يَشكو خَلاها كَثرَةَ العَوائِقِ(21)
وكانت أرجوزته الثاني التي قدمنا من ذكرها من (29) بيتاً، وهي التي ارتجلها عند أبي علي الاوراجي، وتتميز بألفاظها الحوشية الغريبة تلك التي يتعمدها الرجاز. وجاءت من خزين الشاعر ومهارته ورغبته في المنافسة واثبات القدرة. وهي التي مطلعها:
وَمَنزِلٍ لَيسَ لَنا بِمَنزِلِ وَلا لِغَيرِ الغادِياتِ الهُطَّلِ(22)
والأرجوزة الثالثة من (12) بيتاً، قالها في صحبة الأمير محمد بن طغج في سفرة كما وصفها (للصيد والنزهة والتمرد)، وكانت قرب جبل شامخ وصفه في مطلع الأرجوزة:
وَشامِخٍ مِنَ الجِبالِ أَقوَدِ فَردٍ كَيافوخِ البَعيرِ الأَصيَدِ(23)
والأرجوزة تقترب من روح القصيدة، فتقل فيها الألفاظ الصعبة مقابل اهتمام واضح بالمعنى، كما جعل نهاية الأرجوزة مدح الأمير.
أما أرجوزته الرابعة فهي أطولها من (62) بيتاً قالها مصاحباً عضد الدولة، ومطلعها:
ما أَجدَرَ الأَيّامَ وَاللَيالي بِأَن تَقولَ ما لَهُ وَما لي(24)
وهي أهم اراجيزه لما فيها من معانٍ ودلالات. وكان عضد الدولة قد قصد دشت الارزن وهو وادٍ تحفه الجبال، وبقي اياماً بقصد الصيد والمتعة يحفه جيشه الكبير. اتبع المتنبي في الارجوزة أسلوبه؛ فبدأها بالفخر بنفسه، ثم مدح الأمير، ثم وصف الصيد، وجعل الخاتمة مدحا فحكمة. وتميزت الأرجوزة بالصور القريضية المتلاحقة، وتصرف (جُملتاني) فريد في قوله:
فَلَم تَدَع مِنها سِوى المُحالِ في (لا مَكانٍ) عِندَ لا (مَنالِ)(25)
فهذه التركيبة الأسلوبية (لا مكان) و(لا منال) لم يستخدمها شاعر قبله، وهي من التصرفات الجديدة والجميلة في اللغة الشعرية، وتشبه اللفتات الحداثوية التي جنَّ بهاَ جيلنا.
رجزه القريضي
قال المتنبي على بحر الرجز ثلاثة أبيات قريضية هي:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الله وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي(26)
وهو استعمال مخالف لطبيعة الرجز، سوى انه يمثل الموقف الآني؛ فقد جاء في الديوان " وقال في صباه ارتجالاً"(27). وفي هذه الأبيات يتابع المتنبي النفس التجديدي للعصر العباسي في منح الرجز ثقة وزنية شعرية. إلا أن المتنبي لم يخضع تماماً للمتابعة؛ فهو كتب ثلاثة أبيات وليس قصيدة كاملة واضحة الملامح الفنية، كما انه لم يكررها، وهي تحمل سمة الموقف الآني فلم تتمحض للقريض ولم تتخلص من طبيعة الرجز.
وممكن تقييم استعمال المتنبي لبحر الرجز بأنه حاول الالتزام وتقليد القدماء، فأقام الوزن على الشطر وليس البيت، واستعمله كالجاهليين في المواقف الآنية إلا انه قال على غيره في مواقف آنية كثيرة كعادة العباسيين. وجارى الأمويين في تطويل الرجز إلى أرجوزة فكتب أراجيز أربعاً، ولكنه أضاف لأراجيزه روح القريض لغلبة طبيعة القريض عليه، من خلال الصور العميقة وتتابعها، واهتمامه بالمعنى في حين تكاد تتمحض الأرجوزة للألفاظ أو هي ميدانها الأول. كما وجدناه يجرب كتابة القريض على بحر الرجز في ثلاثة أبيات فقط قالها في موقف آني.
المواقف الآنية والقصائل
في شعر المتنبي ظاهرتان وزنيتان يجب تأشيرهما، وهما عامتان في الشعر العربي سوى شيء من الخصوصية من عصر المتنبي ومن المتنبي شخصياً. الأولى المواقف الآنية وهي ازدهرت باجتهاد العصر العباسي. والثانية (القصائل) وهي موجودة في الشعر العربي إلا أن المتنبي أضاف إليها اجتهاده الموسيقي.
المواقف الآنية
كان شعراء الجاهلية – كما أسلفنا – يخصون القصيدة بالشعر والشعرية، والمقطّعة بالمواقف الآنية وبحر الرجز، فلا يشترطون الشعر والشعرية بل هي عامة لكل الناس. ولكن عندما ازدهرت المقطعات في العصر العباسي وأعطيت المقدار نفسه من الشعر والشعرية(28)، أصبحت المواقف الآنية يكتب فيها شعر على البحور كافة دون اختصاصها بالرجز. وأظن أن هذه القضية هي التي أعادت الرجز إلى حظيرة الأوزان القريضية بعدما أصبح مشاركاً في جوهر عمله من بقية البحور.
وقد قال المتنبي شعراً في مواقف آنية على كافة البحور التي استعملها، فقد قال على بحر الطويل عندما " اجتاز بمكان يعرف بالفراديس من أرض قنسرين حين سمع زئير الأسد":
أَجارُكِ يا أُسدَ الفَراديسِ مُكرَمُ فَتَسكُنَ نَفسي أَم مُهانٌ فَمُسلَمُ
وَرائي وَقُدّامي عُداةٌ كَثيرَةٌ أُحاذِرُ مِن لِصٍّ وَمِنكِ وَمِنهُمُ
فَهَل لَكِ في حِلفي عَلى ما أُريدُهُ فَإِنّي بِأَسبابِ المَعيشَةِ أَعلَمُ
إِذاً لَأَتاكِ الخَيرُ مِن كُلِّ وِجهَةٍ وَأَثرَيتِ مِمّا تَغنَمينَ وَأَغنَمُ(29)
وقال على البسيط " لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه إلى جانب المصباح":
أَما تَرى ما أَراهُ أَيُّها المَلِكُ كَأَنَّنا في سَماءِ مالَها حُبُكُ
الفَرقَدُ اِبنُكَ وَالمِصباحُ صاحِبُهُ وَأَنتَ بَدرُ الدُجى وَالمَجلِسُ الفَلَكُ(30)
وقال على مخلّع البسيط : وقد جعل أبو محمد بن طغج يضرب بكمه البخور ويقول: سوقاً إلى أبي الطيب:
يا أَكرَمَ الناسِ في الفَعالِ وَأَفصَحَ الناسِ في المَقالِ
إِن قُلتَ في ذا البَخورِ سَوقاً فَهَكَذا قُلتَ في النَوالِ(31)
وعلى الوافر قال ارتجالاً حين " عذله عبد الله معاذ بن اسماعيل اللاذقي على ما كان شاهده من تهوره":
أَبا عَبدِ الإِلَهِ مُعاذُ إِنّي خَفِيٌّ عَنكَ في الهَيجا مَقامي
ذَكَرتُ جَسيمَ ما طَلَبي وَأَنّا نُخاطِرُ فيهِ بِالمُهَجِ الجِسامِ
أَمِثلي تَأخُذُ النَكَباتُ مِنهُ وَيَجزَعُ مِن مُلاقاةِ الحِمامِ
وَلَو بَرَزَ الزَمانُ إِلَيَّ شَخصاً لَخَضَّبَ شَعرَ مَفرِقِهِ حُسامي
وَما بَلَغَت مَشيئتَها اللَيالي وَلا سارَت وَفي يَدِها زِمامي
إِذا امتلأت عُيونُ الخَيلُ مِنّي فَوَيلٌ في التَيَقُّظِ وَالمَنامِ(32)
وقال على الكامل ارتجالا " وقد دخل على بدر بن عمار يوماً فوجده خالياً، وقد أمر الغلمان أن يحجبوا الناس عنه ليخلو للشراب":
أَصبَحتَ تَأمُرُ بِالحِجابِ لِخِلوَةٍ هَيهاتَ لَستَ عَلى الحِجابِ بِقادِرِ
مَن كانَ ضَوءُ جَبينِهِ وَنَوالُهُ لَم يُحجَبا لَم يَحتَجِب عَن ناظِرِ
فَإِذا اِحتَجَبتَ فَأَنتَ غَيرُ مُحَجَّبٍ وَإِذا بَطَنتَ فَأَنتَ عَينُ الظاهِرِ(33)
وقال على الرمل " حين استحسن سيف الدولة قصيدته (أجاب دمعي) ارتجالا":
إِنَّ هَذا الشِعرَ في الشِعرِ مَلَكْ سارَ فَهوَ الشَمسُ وَالدُنيا فَلَكْ
عَدَلَ الرَحمَنُ فيهِ بَينَنا فَقَضى بِاللَفظِ لي وَالحَمدِ لَكْ
فَإِذا مَرَّ بِأُذني حاسِدٍ صارَ مِمَّن كانَ حَيّا فَهَلَك(34)
وقال على السريع " في صباه وقد قيل له في المكتب ما أحسن هذه الوفرة":
لا تَحسُنُ الوَفرَةُ حَتّى تُرى مَنشورَةَ الضِفرَينِ يَومَ القِتال
عَلى فَتىً مُعتَقِلٍ صَعدَةً يَعُلُّها مِن كُلِّ وافي السِبال(35)
وقال على المنسرح " وقد عُرض على سيف الدولة سيوف مذهبة وفيها سيف غير مذهب فأمر بإذهابه":
أَحسَنُ ما يُخضَبُ الحَديدُ بِهِ وَخاضِبَيهِ النَجيعُ وَالغَضَبُ
فَلا تَشينَنهُ بِالنُضارِ فَما يَجتَمِعُ الماءُ فيهِ وَالذَهَبُ(36)
وقال على الخفيف حين " سئل عما ارتجله فيه من الشعر فاعاده، فعجبوا من حفظه اياه ":
إِنَّما أَحفَظُ المَديحَ بِعَيني لا بِقَلبي لِما أَرى في الأَميرِ
مِن خِصالٍ إِذا نَظَرتُ إِلَيها نَظَمَت لي غَرائِبَ المَنثورِ(37)
وقال على المتقارب " وقد كره الشرب وكثر البخور وارتفعت رائحة الند والأصوات في مجلس الحسين بن عبد الله بن طغج":
أَنَشرُ الكِباءِ وَوَجهُ الأَميرِ وَصَوتُ الغِناءِ وَصافي الخُمورِ
فَداوِ خُماري بِشُربي لَها فَإِنّي سَكِرتُ بِشُربِ السُرورِ(38)
نستنتج من خلال الأمثلة السابقة أن المتنبي لم يجتهد في هذه الظاهرة وإنما كان تبعاً لذوق وتصرف شعراء جيله.
القصائل
(القصائل) مصطلح نحتناه من (القصائد) و(الرسائل)، والمراد به القصائد التي تكتب على شكل رسالة. ومفردها قصالة، وحدّها: القصيدة التي ترسل إلى الشخص المقصود في غرض ما. وقد تكون الرسالة الشعرية دون السبع الأبيات فلا تسمى قصالة بل مجرد رسالة شعرية. كما لا تعد قصالة إذا بعثت مكتوبة في احد الأغراض الشعرية كالمدح او الهجاء مثل قصيدة المتنبي التي أولها (ما لنا كلنا جوٍ يا رسول)(39) على الرغم من انه أرسلها برسالة من الكوفة إلى سيف الدولة في حلب؛ لأنها في المدح الخالص، وليس في غرض رسالى.
والقصائل ليست ابتكاراً من المتنبي، بل هي في ديوان الشعر العربي كثيرة ومعروفة. بعضها يمثل غرضاً شخصياً كالرسائل الغرامية التي بعثها عمر بن أبي ربيعة إلى الثريا، أو التي يكتبها السجناء إلى ذويهم، أو إلى الولاة والأمراء لإطلاقهم كالرسائل التي أرسلها عدي بن زيد العبادي من سجنه إلى النعمان بن المنذر ومنها قوله:
أَبلِغِ النُعمانَ عَنّي مَألَكاً إِنَّني قَد طالَ حَبسي وَاِنتِظاري
لَو بِغَيرِ الماءِ حَلقي شَرِقٌ كَنتُ كَالغَصّانِ بِالماءِ اِعتِصاري(40)
وهناك قصائل لا ترسل إلى شخص بعينه بل إلى مجموعة أشخاص أو قوم لتنبيههم أو تحذيرهم من قضايا مصيرية كالتي أرسلها لقيط بن معمر يحذر أهله في الجزيرة من جيش كسرى ومنها:
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيراً على نسائكم كسرى وما جمعا
فقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا(41)
أو التي رددتها كتب التاريخ أكثر من كتب الأدب(42)؛ وهي التي أرسلها نصر بن سيار إلى آخر خلفاء الأمويين مروان بن محمد مذيلة برسالة:
أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ له ضِرامُ
فإِنْ لَمْ يُطْفِهِ عُقَلاءُ قَوْمٍ فإِنَّ وَقُودَهُ جُثَثٌ وهامُ
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ
فقلتُ مِن التَّعَجُّب: لَيْتَ شِعْرِي! أَأَيْقاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ
فان كانوا لحينهم نياما فقل قوموا فقد حان القيام(43)
والقصائل على الرغم من أخذها طابع الرسالة إلا أنها أو أغلبها موفور الحظ من الفن، لذا فهي تلحق بالشعر الفني لا التاريخي أو أحد أنماط الشعر غير الفنية.
وكانت حياة المتنبي الحافلة دافعا إلى كتابة قصائل لم يجد المتنبي من بدٍّ في كتابتها. وفي ديوانه نجد ثلاث قصائل، كما نجد أربع رسائل شعرية قصيرة جعلها على ثلاثة بحور: كتب على المنسرح اثنتين، الأولى من أربعة أبيات كتبها من سجنه إلى رجل يعرف بأبي دلف كنداج أهدى إليه هدية وهو معتقل بحمص، وكان قد بلغه أنه ثلبه عند الوالي الذي اعتقله، ومطلعها:
أَهوِن بِطولِ الثَواءِ وَالتَلَفِ وَالسِجنِ وَالقَيدِ يا أَبا دُلَفِ(44)
والثانية من ستة كتبها إلى عبيد الله بن خلكان من خراسان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل، مطلعها:
قَد شَغَلَ الناسَ كَثرَةُ الأَمَلِ وَأَنتَ بِالمَكرُماتِ في شُغُلِ(45)
والثالثة من خمسة أبيات على الكامل بعثها لعبيد بن خلكان أيضا وللغرض نفسه، ومطلعها:
أَقصِر فَلَستَ بِزائِدي وُدّا بَلَغَ المَدى وَتَجاوَزَ الحَدّا(46)
والرابعة من أربعة أبيات كتبها على بحر الخفيف إلى الوالي الذي سجنه يستعطفه، ومطلعها:
بيدِي أيُّها الأميرُ الأريبُ لا لشيءٍ إلّا لأنّي غريبُ(47)
أما قصائله الشعرية الثلاث فكتبها على بحر واحد هو المتقارب. وكان اختيار المتقارب اجتهاداً من المتنبي بوصفه النمط النغمي الملائم للقصالة؛ وذلك لأنه يشبه الرجز في كثرة التجوز الموسيقي فيه، الا ان تجوزه ليس في الزحافات كالرجز بل في العلل. اذ يجوز في عروضه وضربه أن تأتي تفعيلته (فعولن) بأربع حالات: أصلية (فعولن)، مقبوضة (فعولُ)، مقصورة (فعولْ)، محذوفة (فعوْ).
إلا أن المتقارب من وجهة نظر المتنبي التطبيقية أرفع نغمياً من الرجز وبالتالي فهو الأفضل في تمثيل نمط القصالة، ويلاحظ أن المتنبي، دون سواه من الشعراء ممن كتبوا القصائل، اجتهد في اختيار البحر الشعري الملائم للقصالة التي تمثل حالة وسطى بين النثرية والشعرية العالية. وقد وجد في نغمة المتقارب خير ممثل لهذا الغرض ففرغه له، لذا وجدناه يعفيه من غرض المدح.
القصالة الأولى من (28) بيتاً، كتبها إلى الوالي الذي حبسه إثر وشاية قوم به. ويلاحظ أن المتنبي يستعطفه ويسترق قلبه لإخراجه، كما يدافع عن نفسه مستخدماً الحجج الدامغة لتبرئة نفسه من التهمة التي حبس عليها.
أَيا خَدَّدَ اللَهُ وَردَ الخُدودِ وَقدَّ قُدودَ الحِسانِ القُدودِ
أَمالِكَ رِقّي وَمَن شَأنُهُ هِباتُ اللُجَينِ وَعِتقُ العَبيدِ
دَعَوتُكَ عِندَ اِنقِطاعِ الرَجاءِ وَالمَوتُ مِنّي كَحَبلِ الوَريدِ
دَعَوتُكَ لَمّا بَراني البَلاءُ وَأَوهَنَ رِجلَيَّ ثِقلُ الحَديدِ
فَلا تَسمَعَنَّ مِنَ الكاشِحينَ وَلا تَعبَأَنَّ بِمَحكِ اليَهودِ
وَكُن فارِقاً بَينَ دَعوى أَرَدتُ وَدَعوى فَعَلتُ بِشَأوٍ بَعيدِ
وَفي جودِ كَفَّيكَ ما جُدتَ لي بِنَفسي وَلَو كُنتُ أَشقى ثَمودِ(48)
والقصالة الثانية من (15) بيتاً. وسبب كتابتها – كما في الديوان- انه تأخر عن مدح سيف الدولة فعاتبه مدة، ثم لقيه في الميدان فرأى منه انحرافاً وأنكر تقصيره فيما كان عوَّده من الإقبال إليه والسلام عليه، فعاد إلى البيت وأرسل إليه هذه الأبيات. وفي القصيدة اعتذار ووعد بمدحه:
أَرى ذَلِكَ القُربَ صارَ اِزوِرارا وَصارَ طَويلُ السَلامِ اِختِصارا
تَرَكتَني اليَومَ في خَجلَةٍ أَموتُ مِراراً وَأَحيا مِرارا
وَأَعلَمُ أَنّي إِذا ما اِعتَذَرتُ إِلَيكَ، أَرادَ اِعتِذاري اِعتِذارا
وَلي فيكَ ما لَم يَقُل قائِلٌ وَما لَم يَسِر قَمَرٌ حَيثُ سارا
سَما بِكَ هَمِّيَ فَوقَ الهُمومِ فَلَستُ أَعُدُّ يَساراً يَسارا
وَمَن كُنتَ بَحراً لَهُ يا عَلِيُّ لَم يَقبَلِ الدُرَّ إِلّا كِبارا(49)
أما القصالة الثالثة، وهي من (44) بيتاً، فقد كتبها إلى سيف الدولة من ميافارقين جواباً على رسالته التي يسأله فيها المسير إليه. وقد ذكر فيها ما استوجب فراقه وكثرة حساده، كما ضمّنها مدحا له، وهي أطول وأفضل القصائل:
فهمتُ الكِتاَبَ أبَرَّ الكتَبْ فَسمعاً لأمْرِ أَمير العَربْ
وطَوعاً له وابتهاجاً بهِ وإن قَصَّرَ الفِعلُ عمَّا وَجبْ
وَما عاقَني غَيرُ خَوفِ الوُشاةِ وَإِنَّ الوِشاياتِ طُرقُ الكَذِبْ
وَتَكثيرِ قَومٍ وَتَقليلِهِم وَتَقريبِهِم بَينَنا وَالخَبَبْ
وَقَد كانَ يَنصُرُهُم سَمعُهُ وَيَنصُرُني قَلبُهُ وَالحَسَبْ
وَما لاقَني بَلَدٌ بَعدَكُم وَلا اِعتَضتُ مِن رَبِّ نُعمايَ رَبْ
فَلَيتَ سُيوفَكَ في حاسِدٍ إِذا ما ظَهَرَت عَلَيهِم كَئِبْ
وَلَيتَ شَكاتَكَ في جِسمِهِ وَلَيتَكَ تَجزي بِبُغضٍ وَحُبْ
فَلَو كُنتَ تَجزي بِهِ نِلتُ مِنكَ أَضعَفَ حَظٍّ بِأَقوى سَبَبْ(50)
المجتث
كان المجتث أول بحر شعري ابتدع. ومبتدعه الخليفة الأموي الوليد بن يزيد في قوله عابثاً:
إني سمعتُ بليلٍ ورا المصلى برنـّه
خرجتُ اسحبُ ذيلي أقول ما شأنهنه
إذا بنات هشام يندبن والدهنه(51)
وإنما هداه إلى وضع هذه النغمة حبه الغناء الذي يقتضي أوزانا قصيرة رشيقة. وقد انتشر هذا البحر بشكل لافت في العصر العباسي اثر موجة اكتشاف بحور جديدة، ولانتشار الغناء بشكل أكبر. ولما أمكن للخليل إضافته، ألحقه ببحوره الستة عشر.
إلا أن النظرة والنظرية المحافظة جعلت بعض الشعراء يتجنبه أو يقلل من الكتابة عليه، وقد علل الزمخشري ذلك في كتابه (القسطاس في علم العروض) بقوله: " انَّ بناء الشعر العربي على الوزن المُخترعِ، الخارج عن بحور شعر العرب (يقصد المجتث والمضارع والمقتضب والمتدارك)، لا يَقدحُ في كونه شعراً عندَ بعضهم. وبعضُهم أبى ذلك، وزعم أنه لا يكون شعراً حتى يُحامَى فيه وزن من أوزانهم"(52).
وإذا طالعنا دواوين الشعراء العباسيين نجدهم يتفاوتون في استعمال هذا البحر بقدر حرصهم على التقليد والتجديد، وثقافاتهم وأساليبهم الشعرية. فأبو نواس المجدد كتب عليه (46) قصيدة ومقطّعة، وابن الرومي (28)، وابن المعتز (23)، والصاحب بن عباد (9). وتقل الكمية عند الشعراء الحريصين على الأصالة؛ فكتب عليه العباس بن الأحنف (5)، والبحتري (4)، ودعبل الخزاعي وعلي بن الجهم (3)، وأبو تمام (2)، وبشار ثلاثة أبيات فقط.
وفي ديوان المتنبي قصيدة يتيمة من (39) بيتاً على بحر المجتث. والقصيدة تقترن بمقتل المتنبي وهي في هجاء ضبة خال فاتك الاسدي قاتله المزعوم. وقد ذكرت في ديوانه طويلة، ولم تذكر المصادر منها إلا أبياتاً قليلة.
وان معرفة رأي المتنبي بالبحور المستحدثة وبحر المجتث خاصة لوجود قصيدة باسمه عليه، يدعو إلى التأني في قراءة القصيدة المنسوبة إليه واستحضار كل معرفتنا بتكوين المتنبي الشخصي والثقافي. بدءاً القصيدة مملوءة بالفحش والفجور وألفاظها يستخدمها الفسقة والساقطون وهو ما لا نجده في عموم شعر المتنبي الكيّس العظيم الهمة. ومن أبياتها التي يظهر فيها الفسق والفجور:
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ وَباكَوا الأُمَّ غُلبَه
فَلا بِمَن ماتَ فَخرٌ وَلا بِمَن نيكَ رَغبَه
وَما عَلَيكَ مِنَ العارِ إِنَّ أُمَّكَ قَحبَه
ما ضَرَّها مَن أَتاها وَإِنَّما ضَرَّ صُلبَه
وَلَم يَنِكها وَلَكِن عِجانُها ناكَ زُبَّه
لَو أَبصَرَ الجِذعَ شَيئاً أَحَبَّ في الجِذعِ صَلبَه(53)
ومن الناحية اللغوية، القصيدة تخلو من الجزالة المعهودة لدى المتنبي، وتكثر فيها ألفاظ سوقية لا ترد في شعر الفحول. وفي القصيدة توجد لفظة (تيبَه) مخففة من (تأبه) وهو استعمال غريب لم يذكره لا شاعر ولا ناثر غير المتنبي، وليس بالمقبول البتة أن يتجاوز المتنبي على اللغة ويخالف الجميع. أما من الناحية الشعرية، فالأبيات كما وصفها ابن رشيق القيرواني ركيكة(54)، وليست من قصائد اللفظ أو المعنى، وليس فيها أدنى مقدار من الشعرية. وفي الديوان أن المتنبي كان إذا سئل عنها ينكرها(55).
وان الحكم على صحة القصيدة من عدمها يقتضي حكماً موسيقياً أهم هو إيمان المتنبي من عدمه باستعمال البحور العباسية المستحدثة، وهو المعروف بالتزامه بقواعد الاسبقين في الأبجدية الشعرية برمتها. الانطباع الأول المتكون لدينا هو إن المتنبي يكره مخالفة العرب بالكتابة على البحور المستحدثة فليس في ديوانه شعر مذكور على المضارع أو المقتضب أو المتدارك، وتوجد قصيدة واحدة على المجتث. وكلها قصيرة راقصة لا تناسب طبيعة المتنبي.
أما صحة نسبة القصيدة اليه والتي تقتضي رغبته وإصراره على الكتابة على البحر المجتث، فنرى القضية تنحصر باحتمالين:
الأول: إن القصيدة مشكوك فيها؛ فليس يغرنا الخبر الطويل في الصبح المنبي عن طلب فاتك الاسدي قتل المتنبي بسبب هذه القصيدة، فثابت بن هارون الرقي الذي عاصر الحدث ورثى المتنبي في حضرة عضد الدولة حاثا إياه على الأخذ بثأره، لم يذكر فاتكاً ولا أشار إليه، ولو كان قاتله بالفعل لذكره هارون، ولكنه ذكر ما يدلّ على الغدر والتعمد في قتله، وذكر بني أسد قاتلين للمتنبي سارقين لعطاء عضد الدولة له:
(غدر) الزمان به فخان ولم تزل أيدي الزمان ببأسه تستنجدُ
لقي الخطوب فبذها حتى جرى غلط القضاء عليه و(هو تعمُّدُ)
يا أيها الملك المؤيد دعوة ممن حشاه بالأسى يتوقدُ
هذي بنو أسد بضيفك أوقعت وحوت عطاءك إذ حواه الفدفدُ(56)
ونقرأ في قصيدته الأخيرة أنه كان متوقعاً مهاجمته وقتله في الطريق وهو عند عضد الدولة:
وَأَيّا شِئتِ يا طُرُقي فَكوني أَذاةً أَو نَجاةً أَو هَلاكا
يُشَرِّدُ يُمنُ فَنّاخُسرَ عَنّي قَنا الأَعداءِ وَالطَعنِ الدِراكا
وَأَلبَسُ مِن رِضاهُ في طَريقي سِلاحاً يَذعَرُ الأَبطالَ شاكا(57)
وفي شعره الشيرازي نجده على خلاف العادة يهتم بموضوع الخوف والأمان، كما في قوله:
أُروضُ الناسِ مِن تُربٍ وَخَوفٍ وَأَرضُ أَبي شُجاعٍ مِن أَمانِ(58)
وذكر القاضي التنوخي ثلاثة أسباب لقتل المتنبي: الأول: انه كان معه مال كثير فقتله العرب واخذوا ماله، والثاني كلمة قالها عن عضد الدولة، فدس عليه من قتله، والثالث بسبب القصيدة(59). ويبدو السبب الثاني أكثر إقناعاً.
واتهم الجواهري ملمحاً عضد الدولة بقتله في قوله:
يدٌ لفاتك كانت آلة رفعتْ وراءه خبِّئت من آخرينَ يدُ(60)
وفي أخبار عضد الدولة انه قال عند سماع قول المتنبي (أني الفتى): هو ذا يتهددنا المتنبي(61). والراجح عندنا أن عضد الدولة استدرجه إلى إيران لتصفيته؛ فقد ضيق عليه في العراق عند عودته من مصر خائباً من أمل الولاية وما علق عليها من آمال تصحيحية حتى ترك العراق مراغماً للوزير المهلبي وزير آل بويه في بغداد(62) العميل المشترك بين البويهيين والعباسيين. وكان المتنبي يرى سبب مأساة الإسلام والأمة الإسلامية تملك الأعاجم وجثوم الخلفاء العباسيين الضعاف على خلافة العباد. فهو لم يمدح الخلفاء العباسيين الستة الذين عاصرهم، وقال في البويهيين وسواهم من الأعاجم:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ(63)
وإذا سلّمنا بأن عضد الدولة هو الذي قتل المتنبي سنخلص إلى أن القصيدة مختلقة وكذلك ضبّة وخاله فاتك الاسدي، ويكون المتنبي ملتزماً غير متبع في الأوزان، لذا فهو لم يكتب على بحر المجتث كما لم يكتب على بقية البحور المخترعة: المضارع والمقتضب والمتدارك. وتضاف القصيدة دليلا إلى جملة الأدلة في تحديد عضد الدولة قاتلا للمتنبي ويتأكد أن المتنبي جرى على طريقته في الحفاظ والمحافظة على الأصالة العربية في اختيار الأوزان.
الثاني: إن المتنبي كتب القصيدة واختار بالفعل بحر المجتث، وانه تقصد أن يأتي بها بهذا المستوى من الانحطاط الخلقي والفني، وقد جاء في خبرها أنه (أجاب ضبة بألفاظه)(64). وقبولنا ذلك لأن المتنبي – كما في قول الزمخشري مار الذكر – من الشعراء المحافظين الذين لا يعترفون بالشعر الذي يكتب على غير أوزان العرب. فهو لا يعدّ قصيدته على بحر المجتث شعراً، لذا فقد كان ينكرها بوصفها شعراً وليس قولا.
ونحن، على ترجيحنا الأول، نرى أن المتنبي في الحالتين لم يعترف بالمجتث والبحور المستحدثة.
المديد والهزج
المديد الأصلي(65) بحر جاهلي صرف، ونادر حتى في الشعر الجاهلي. وقد عجزت الذائقة النغمية الإسلامية عن هضمه واستيعابه، لذا لم يكتب عليه قصيدة واحدة من قبل الشعراء الأمويين الكبار: جرير، الفرزدق، الأخطل، والراعي النميري. ولم تكتب عليه قصيدة إسلامية ناضجة نغمياً، وكانت كتابة قصائد حب عليه من عمر بن أبي ربيعة محاولة عابثة. والبحر الأصلي برأي المجذوب فيه صلابة وعسر ووحشية ويصلح للرثاء الانتقامي وان تفعيلاته اقتبست في الأصل من قرع طبول الحرب(66). وأرى في نغمته صوت تقطع النفس المتأتي من غضب أو بكاء، فهو يصلح للبكاء العميق (النشيج) وطلب الثأر أو الصراخ الشعري.
وقد استبعده المتنبي بسبب ندرته وصعوبة نغمته أسوة بشعراء جيله، أو لأنه لم يحتج إلى الصراخ أو يصل إلى مرحلة الحزن العميق فيتماهى من نغمته، فحتى رثاؤه لجدته لم يصدر عن حزن يتيم تعيس بل كان حزنه شفيفاً لطـَّفه وطغى عليه الطموح فجاء الرثاء بنـَفـَس بطولي. ونعتقد جازمين أن المتنبي بأصالته وقوة إحساسه بالنغم وتصرفه بالموسيقى يستطيع اجتياز عقبة استيعاب المديد لو أنه أراد ذلك أو دعته الحاجة إليه.
أما المديد القصير بعروض محذوفة ومحذوفة مخبونة فقد استعمله الإسلاميون ولكن ليس بكثرة. فقد كتب عليه عمر بن أبي ربيعة أربع قصائد ومقطّعة واحدة، وكتب عليه ابن الرومي أربع قصائد، وابن المعتز عشراً، وأبو نواس تسعاً، والشريف الرضي سبع مقطعات وقصيدة يغلب على أكثرها الغزل. وقلَّ في شعر الكبار: فكتب عليه أبو تمام ثلاث مقطعات قصيرة، والبحتري مقطّعة واحدة من أربعة أبيات. وقد استبعده المتنبي لأنه من البحور القصيرة التي يقل غَناؤها في غير الغِناء.
والهزج بحر قصير أيضاً. وقد استبعده المتنبي لقصر نغمته التي تؤهله للتقطيع الراقص شأن البحور القصيرة ومجزوءات البحور الطويلة، لذا استبعده المتنبي لأن أفكاره الملحمية والبطولية تحتاج أوزاناً طويلة.
الخلاصة
نستنتج مما توصلنا إليه في دراسة موسيقى شعر المتنبي، أنه كان مقلداً للعرب القدماء ومجتهداً صاحب رأي في الوقت نفسه. فأخذ من القدماء أفضل ما عندهم ومن معاصريه أفضل ما لديهم في الشعر والشعرية. فضلا عن اجتهاده الموسيقي الذي مثـَّل جانباً مهماً من تجربته الفنية لأهمية الموسيقى في بناء الشعر العربي. وقد أجاد باجتهاده الاختيار والترك، ولاءم بين طريقة القدماء والمحدثين، فرسم أسلوبه المتفرد الذي رشحه أكبر شعراء العربية.
وإذا نظرنا في شعر أفاضل شعراء العصر العباسي، نجدهم نزعوا التي التجديد ونالوا حظا منه وحققوا قدرا من التميز، بينما فشل المقلدون بالمحض في تحقيق حضور شعري كابن مناذر. وقد جاء في الأغاني: " قال أبو العتاهية لابن مناذر: شعرك مهجن لا يلحق بالفحول، وأنت خارج عن طبقة المحدثين. فإن كنت تشبهت بالعجاج ورؤبة فما لحقتها ولا أنت في طريقهما، وإن كنت تذهب مذهب المحدثين فما صنعت شيئاً"(67).
وهكذا كان الاجتهاد سمة واضحة رصدناها في موسيقى شعر المتنبي. بدءاً هو اختار عشرة بحور من الاثني عشر بحراً الجاهلية؛ مستبعداً المديد الأصلي لأنه لا يتماهى مع طريقته، والمديد بعروض محذوفة ومحذوفة مخبونة، والهزج لأنهما بحران راقصان لا يتفقان مع تطلعاته الجادة. وفي مجال القصيدة الرسمية (المدحية) نجده يتفق مع القدماء في بعض البحور مثل: الطويل، البسيط، الكامل، الوافر، المنسرح، مجتهداً بالتسلسل فقدم الكامل بعد الطويل. كما اخرج بعض البحور عن المدح وهي: السريع، الرمل، المتقارب. وخصَّ المقارب دون سواه بمهمة (القصائل) وهي الرسائل الشعرية الطويلة. وبالنسبة للرجز ماشى القدماء بجعله للحاجات اليومية دون أن يخصه وحده بذلك وهو خلاف ما فعله القدماء. كما كتب عليه الأراجيز وهي فن أموي. وخرج على القدماء والأمويين مجاراة لعصره فكتب على الرجز ثلاثة أبيات قريضية، إلا أنها لم تخلُ من طبيعة الرجز لأنه قالها مرتجلاً. أما المجتث وأخوته البحور العباسية الثلاثة: المضارع، المقتضب، المتدارك، فسواء صحّت نسبة القصيدة التي على المجتث إليه أم لم تصح، فانه لم يعترف بهذه البحور.
|