علم السياسة والعقليات الزقاقية |
لا أدري من أية طينة آسنة جبل ساسة العراق الجدد ، حتى يظهروا هذا الاستهتار بحياة الناس والاستحقار لكرامتهم البشرية ، ولا أعلم تبعا"لأية مخلوقات هؤلاء يصنفون ، حتى يبدو هذا الاستخفاف بمصالح الوطن والإجحاف بحق المواطن . بيد أن المؤكد أنهم لا يفقهون من ألف باء السياسة إلاّ اسمها ، ولا يفهمون من شؤون الدولة وأمور السلطة إلاّ ما يدر عليهم من مكاسب مالية ومناصب حكومية . ولكن اعلموا أيها العيال والجهّال إن في علم السياسة ، ليس هناك ما يعيب الكبير أن يقتدي بحكمة الصغير حول أصول الزعامة وفن القيادة ، طالما إن هناك مصلحة عليا تسوغ مثل هذا الموقف وتبرره . واعلموا أيها الفاسدين والطارئين أن في علم السياسة ، ليس هناك ما يخجل الكل أن يتعلم من الجزء مبادئ الحكم وحسن إدارة السلطة ، طالما أن هناك ضرورة ملجئة تستدعي مثل هذا التصرف وتستلزمه . واعلموا أيها المتاجرين بالمصائر والمتلاعبين بالسرائر إن في علم السياسة ، ليس هناك ما يدين الأعلى أن يقلد موقف الأدنى إزاء الحنكة في إدارة الأزمات والحكمة في اتخاذ القرارات ، طالما أن هناك واجب وطني يقتضي مثل هذا الخيار ويتطلبه . والحال لماذا يتعامى المسئولين في الحكومة المركزية عن الدروس المجانية ، التي تقدمها لهم حكومة الإقليم في كردستان على طبق من ذهب ؛ من خلال الكيفيات التي تدير بها عناصر كل أزمة سياسية تنشب بينها وبين المركز ، حيث تتغلب المصلحة العليا للإقليم على مصالح القوى والتيارات السياسية الأخرى ، سواء منها الموجودة في السلطة أو المنخرطة في المعارضة . مثلما عبر الآليات التي تعتمدها عند كل طارئ أمني يتفاقم على تخوم المناطق المتنازع عليها ، حيث تتقدم مصالح الشعب الكردي على أية مصالح أخرى تتقاطع وتتعارض معها ، سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة ،عادلة أم غير عادلة ؟! . إذ ما أن تحدث أزمة أو تقع نازلة حتى يهرع جميع الفرقاء - وبدون استثناء - للاصطفاف خلف حكومة الإقليم وتحت سلطتها ؛ إما لدعم موقفها وتأييد سياستها وان اختلفت توجهاتهم ، وإما لإزجاء النصح وتقديم المشورة وان تعارضت برامجهم . وذلك بصرف النظر عما إذا كانت تلك المواقف والسياسيات تنسجم مع المصالح الوطنية العليا للعراق أم لا ، وبصرف النظر عما إذا كانت تلك الممارسات والتصرفات تصب في خانة الشعب العراقي ككل أم لا . ولعل مدار حديثنا هنا ينطبق على ذهنيات وسلوكيات قوى ما يسمى (بالمعارضة) بكل ألوانها الحزبية وأطيافها المذهبية ومضاربها القبلية ، وذلك من منطلق مخالفتها مبادئ العمل السياسي المتعارف عليها ، ومجانبتها لقواعد المسؤولية الوطنية المسلم بها ، فهي وان تمتلك ترسانة مدججة بالأدلة الدامغة ضد ممارسات الحكومة المركزية ، فضلا"عن توفرها على كم هائل من المعطيات التي تدين السلطة الاتحادية ، إلاّ أنها لا تختلف عنها في شيء ؛ إن من حيث تفريطها بالثوابت الوطنية (الخطوط الحمر) كما يجيدون وصفها عادة ، لصالح مآربها الحزبية الدنيئة ومغانمها الفئوية الضيقة ، أو من حيث إفراطها في تعصبها لنوازع انتماءاتها الاقوامية / الهامشية ، وولاءاتها الطوائفية / التحتية ، وثقافاتها القبائلية / الفرعية . كل ذلك على حساب انتمائها الوطني المشترك وولاءها العراقي الجامع . وهكذا فقد كشفت أحداث الحويجة سابقا"وتداعيات الانبار حاليا"عن الطابع الزقاقي (الصبياني) والخاصية الرعاعية (الهمجية) ، ليس فقط للعقليات القابضة على مقاليد السلطة والمسيرة لشؤون الدولة فحسب ، وإنما للعقليات الرابضة في مواقع المعارضة والمتربصة في ساحات الاعتصام كذلك . ففي الوقت الذي تحرز فيه حكومة الإقليم الكردستاني النجاح تلو النجاح والمكسب تلو المكسب ، عبر الاستثمار المدروس للفرص التي تقدمها الأزمات السياسية والاستغلال الأمثل للمعطيات التي توفرها الاحتقانات الطائفية ، بين كل من حكومة بغداد والقوى والتيارات والحركات المعارضة لها ، على خلفية التوزيع غير المتكافئ للحصص والتقسيم غير العادل للامتيازات . الأمر الذي يعزز مركزها (= حكومة الإقليم) التفاوضي ويقوي موقفها السياسي ، لا ضد حكومة المركز وحدود سلطتها ونطاق سيادتها فحسب ، وإنما على حساب حقوق المعارضة ودورها أيضا". نجد إن هذه الأخيرة قد استهلكت نفسها بالتظاهرات المطلبية واستنفدت طاقاتها بالمهاترات الخطابية ، لا حرصا"منها على سلامة الوطن من التقسيم وحقوق المواطن من التقزيم ، وإنما خوفا"من تردي سمعتها وخشية من ضياع مصالحها وهلعا"من خسارة مواقعها . هذا في حين ترغي حكومة بغداد وتزبد على كل من يتطاول على سلطتها المخترقة ويتجاسر على سيادتها المنتهكة ، دون أن تعطي ، بالمقابل ، لضجيج المتظاهرين وصراخ الداعين آذان صاغية . ليس فقط من أجل تحقيق بعضا"من مطاليب هؤلاء ودعوات أولئك فحسب ، وإنما لكي تحفظ للبعض الآخر منهم ماء الوجه أمام اقرأنهم ، بعد أن غرر بهم وتوجر بجهلهم وسذاجتهم . بحيث أوقعت نفسها في ورطة لا تحسد عليها كلفتها ثمنا" باهظا"، سوف تكشف الأيام القادمة حجم خسارته وطبيعة جسامته ، لا في مجال السياسة والاقتصاد والجغرافيا فحسب ، وإنما في مجال التاريخ والثقافة والهوية كذلك . لقد عرت وفضحت هذه الأزمة الخطيرة – ولن تكون الأخيرة بالتأكيد - التي لا زالت عناصرها وتداعياتها تتفاعل على مختلف الصعد والمستويات ، ليس فقط ضعف الحكومة المركزية إزاء مواجهة التحديات المصيرية ، التي تفرضها عليها حكومات الإقليم والمحافظات الأخرى فحسب ، وإنما مقدار عجزها وتخبطها في إدارة الأزمات السياسية ومعالجة الاحتقانات الاجتماعية . الأمر الذي يسم تصرفاتها وردود أفعالها بالطيش والتهور ، طالما أنها تصرّ على تغليب عقلية الغنيمة وإرادة الغلبة وخطاب الهيمنة ، بدلا"من الاحتكام إلى لغة الحوار المتكافئ وعلاقة الشراكة الندية ، على خلفية ثوابت الوطن الواحد والعراق الموحد . والأنكى من ذلك كله انه بقدر ما ترفع سلطة الإقليم سقف مطاليبها وتضغط باتجاه الحصول على تنازلات أضافية ، بقدر ما ترفع سلطة المركز (الراية البيضة) ، إعلانا"منها بالاستسلام دون قيد واعترافا"منها بالموافقة دون شرط ، كما حصل سابقا"في الاجتماع بين وفدي الحكومتين العتيدتين ، بعد أن وضعت حكومة الإقليم نظيرتها المركزية أمام الأمر الواقع ، على أثر تحريك قوات البيشمركة لاحتلال مواقع حول محافظة كركوك ، زعم أنها لملئ الفراغ الأمني الحاصل على خلفية الأحداث الدامية هناك . وبهذا تمارس حكومة بغداد سياسة مزدوجة وتكيل بمعيارين كما يقال ؛ فهي من جهة تبدي اللين والإذعان حيال مطالبات الإقليم المشاكس ، لاسيما وأنها وافقت على تنفيذ ما عجزت العديد من المحاولات طيلة السنوات العشر العجاف عن بلوغ حدها الأدنى . وهي من جهة أخرى تظهر التشدد والتوعد حيال مطاليب الآخرين في الأقاليم الوسطى والجنوبية ، لا عن تقدير صائب للمواقف ودراسة متأنية للخيارات ، وإنما عن جهل مطبق بأمور سلطة الدولة وقيادة دفة المجتمع من جانب ، وتجاهل متعمد للعواقب الوخيمة الناجمة عن الانفتاح والانبطاح هناك والتقوقع والتمنع هنا . وكخاتمة لموضوع لا نرى له خاتمة ، فلا أصدق مما قاله العالم الانثروبولوجي الفرنسي (بيار كلاستر) حين أفاد في كتابه (مجتمع اللادولة) الموحي والفائض بالدلالة (( يكون المجتمع بدائيا"إذا كان ينقصه ملك بما هو المصدر الشرعي للقانون ، أي بما هو آلة – دولة . على نقيض ذلك ، كل مجتمع غير بدائي هو مجتمع – دولة )) ! . |