المقدمة في المرثية الحسينية ... المحاور والاتجاهات.. بقلم/ د. علي حسين يوسف |
تكتسب المقدمة في المرثية اهميتها بوصفها نابعة من حالة الحزن التي يعيشها الشاعر لذا فهي الخطوة الاولى التي يحاول الشاعر من خلالها التنفيس عن آهاته والتعبير عن أوليات مشاعره، وفي رثاء الامام الحسين (ع) تعدُّ المقدمة مدخلاً طبيعياً للدخول الى عوالم الذكرى الحسينية، ويلاحظ ان شعراء المراثي الحسينية قد سلكوا في بناء مقدماتهم اتجاهين فنيين: الاول: تقليدي يستوحي الموروث البنائي الشعري والآخر: يستبطن شيئاً من التجديد وبدرجات متفاوتة وتمثل المقدمة التقليدية استجابة طبيعية لسيطرة الموروث الشعري على ثقافة الشعراء العراقيين وقد تكون نتاجاً لغياب البديل وعدم توفر الجرأة للخروج على المألوف الادبي. وفي احصائنا لما يقرب من (250) مرثية وجدنا أن اكثر المقدمات التقليدية نسبة هي مقدمة الحكمة ويبدو أن ميل الشعراء الى الابتداء بمقدمة الحكمة كان نابعاً من انسجام هذا النوع من المقدمات مع رثاء الامام الحسين (ع) الذي جسّد في وقفته مع اصحابه واهل بيته في كربلاء الحكمة البالغة وهي ان يضحي بنفسه وانصاره من اجل مبادئه السامية يقول محمد حسن ابو المحاسن في مقدمة إحدى مراثيه: دعِ المنى فحديثُ النفسِ مختلقُ واعزم فان العلى بالعزم تستبقُ ولا يؤرّقكَ إلاّهمُّ مكرمةٍ ان المكارم فيها يحمدُ الارقُ إن ذم الهوى الحث على طلب المكارم ملائم لما سوف يأتي بعد هذه الابيات في رثاء الامام الحسين (ع) الذي هجر الدنيا طلباً لنيل الشهادة وقد تكون مثل هذه المقدمات اشارة الى ان الشاعر في رثائه الامام الحسين (ع) انما يسلك طريق المكارم وهذا قريب من قول عبد الحسين الأزُري في احدى مقدماته: عش في زمانك ما استطعت نبيلا واستبقِ ذكرك للرواة جميلا ولعزكَ استرخص حياتك انه أغلى وإلّا غادرتك ذليلا تعطي الحياة قيادها لك كلما صبرّتها للمكرمات ذلولا يتجسد المفهوم الاخلاقي في مقدمة الشاعر منذ البيت الاول ليصب في معنى تربوي خلاصته ان العيش بنبل ما هو إلّا مقدمة لذكرى جميلة لا تزول وكأنّ الشاعر يستوحي معناه من خلود الذكرى الحسينية الذي ما كان ليتحقق لولا تضحيته وصبره وهذا مايؤكد الابعاد التربوية لمراثي الامام الحسين (ع) في ابراز الانموذج القدوة لكل من يطلب الحياة المثالية التي لا تنتهي إلا بالخلود يقول شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري في مرثيتهِ الرائية! هي النفسُ تأبى أن تذلّ وتقهرا ترى الموت من صبر على الضيم أيسرا وتختار محموداً من الذكر خالداً على العيش مذموم المغبّة منكرا ان سيطرة الوقفة المبدئية للامام الحسين (ع) على مخيَّلة الشعراء قد تفسر مثل هذه الصيغ التقريرية التي بدأ الجواهري مرثيته بها بوصفها اسلوباً ناجحاً في الوعظ يستند الى دروس واقعة الطف يقول محسن أبو الحب الكربلائي: يا صاح دع منك ما تهواه من امل واقصد الى مايحب الله من عملِ هذا المحرم قد لاحت لوائحه فلا يكن لك غير النوح من شغل فالابتداء بمثل هذه المقدمات مما يناسب مجالس الوعظ والرثاء الحسينية فهي دروس ونصائح اكتسبت قوة تأثيرها من الصيغة العقائدية التي طالما حاول الشعراء ان تكون مستمدة من تعاليم الدين الاسلامي الحنيف. وتأتي المقدمة الطللية بعد مقدمة الحكمة وهي من اكثر المقدمات شيوعاً في الشعر العربي التقليدي بوصفها تمثيلاً للواقع الموضوعي لحياة البداوة العربية القائمة على التنقّل والترحال حتى اصبحت تلك المقدمات تقليداً محبباً عند الشعراء العرب وان كان الشاعر من سكان الحاضرة لوجود رواسب البداوة ولأن الاطلال تمثل اهم مظاهرها ويمكن ان تفسر المقدمة الطللية في مراثي الامام الحسين (ع) بانها مظهر من مظاهر الاشادة بالماضي والتلذذ بذكره بوصفه ردّ فعل لقسوة الواقع الذي لم يلبَّ طموحات الشعراء وبهذا فإن المقدمة الطللية تمثل استجابة نفسية لحاجة ملحّة في الانسان في الحنين الى الماضي بوصفه الانموذج المثالي الذي لايتكرر وهي نوع من حنينه الى طفولة الحياة ببساطتها وعفويتها وبعدها عن التعقيد ولاسيما ان الطلل في المرثية الحسينية لم يعد ذلك الرسم الدائر والخرائب التي عفا عليها الزمن فلم يبق منها إلّا الاثافي والنوى وكلها توحي بالموت والفناء بل كان شيئاًَ آخر يفيض بالحياة والنور ينمو وتوهّج مع مرور الزمن يقول عبد الحسين السماوي في مقدمة احدى مراثيه: لمن النواهد لا برحن نواهدا يغنى الزمان ولاتزال رواكدا طفقت تصعّد في الفضاء كأنها اتخذت بآفاق السماء قواعدا نتئت على هام القرون فخلتها في مبسم الدهر الجديد نواجدا ومشت تحيي الفرقدين فأطلعت بالرغم من وضح النهار فراقدا نطحت بصخرتها الوجود واصحرت لتظلَّ من بعد الحدوث اوابدا هذه المعالم التي يخاطبها الشاعر والتي صارعت الوجود على البقاء معالم حيّة تفيض بالنور فالشاعر حين يخاطبها يخاطب عالماً مليئاً بالارواح النورانية التي من الممكن ان تستجيب له في أية لحظة هذا التوظيف الجديد للطلل يفسر العلاقة التي تربط الشاعر بتلك المعالم مثلما يفسّر العلاقة بين المقدمة والغرض فلم تعد علاقة الشاعر بما يخاطبه علاقة الذكرى اليائسة التي ربطت الشاعر الجاهلي بطلله القديم وانما صارت علاقة مستمرة بين روحين يمكن ان يتجاوبا، فيما اصبحت الرابطة بين المقدمة وغرض المرثية رابطة انسيابية ممتدة غير متكلّفة على عكس ما كانت عليه عند الشاعر الجاهلي يقول السيد رضا الهندي: ان كان عندك عبرة تجريها فانزل بأرض الطف كي نسقيها فعسى نبلّ بها مضاجع صفوةٍ ما بلّت الاكباد من جاريها ولقد مررت على منازل عصمةٍ ثقل النبوة كان ألقيَ فيها فبكيت حتى خلتها ستجيبني ببكائها حزناً على اهليها فالطلل هنا غير منفصلٍ عن غرض القصيدة وهذه من أهم سمات المقدمة الطللية في مراثي الامام الحسين (ع) فنرى ان السيد رضا الهندي قد أضفى على مقدمته طابعها الطفي الخاص بدلالة الالفاظ: (أرض الطف، مضاجع صفوة، منازل عصمة، ثقل النبوة...) وهذه الالفاظ اصبحت المعادل الموضوعي لبقايا الطلل الجاهلي التي كان يخاطبها الشاعر وهو يعلم انها لا تجيبه لكن منازل اهل البيت كانت مهوى لأفئدة الشعراء تضفي على نفوسهم الطمأنينة واليقين لذلك كثيراً ما كان الطلل الجاهلي موضوع رفض عندهم يقول الشيخ باقر حبيب الخفاجي: خليليَّ عوجا بي على وادي نينوى ولا تذكرا لي عهد حزوى ولا اللوى قفابي على وادي الطفوف سويعةً لعلي اناجيه ايدري لمن حوى حوى سيداً شاد الهدى في جهاده غداةَ على متن الجواد قد استوى فالغاية عند الشاعر في هذه المقدمة تستند الى رؤية عقائدية تؤمن بخلود الشهداء لذا اصبحت مناجاته لأرواح شهداء الطف بعد ان كانت عند الجاهلي وقفة يأس لذكريات شاحبة. وقد تكون الغاية من الوقوف على الطلل مباشرة الغرض حينئذ تمتزج المقدمة بالغرض فتنعدم الفواصل بينهما على نحو جعل من ذلك سمة انفردت بها مراثي الامام الحسين (ع) لتعبّر عن وحدة موضوعية تتمثّل في الحزن على الامام وبكائه ووحدة فنية تتمثل في انتفاء الحاجة الى التخلص من المقدمة الى الغرض كما في قول الشيخ محمد بندر البنهائي في احدى مراثيه: ألا عوجا على تلك الطلالِ بها نبكي لأحمد خير آلِ فهذي كربلاء بها حسين احاطت فيه أجناد الضلال تأتي بعد ذلك مقدمة وصف الظعن وصورة الظاعنين مما يبعث الاسى فهو مشهد ايذان بالفراق وانفصام لرابطة الانسان بأرضه وهذا كافٍ لاثارة مكامن الشعور بالقلق من الفراق الذي يهدد الانسان في كل لحظة انه صورة أخرى للموت وفي مراثي الامام الحسين (ع) ربما كانت هذه المقدمات تعبر عن شعور خفي بحضور صورة ظعن الامام الحسين (ع) في مخيلة الشاعر وهو يقطع الفيافي والقفار محمّلاً بالبدور من آل هاشم مؤذنا بفراق مؤلم انتهى بمصرعهم في كربلاء وقد جسّدت تلك المقدمات ذلك من خلال اشارات لاواعية من لدن الشاعر حينما تكشفت فلتات لسانه ان ظعنه المقصود لم يكن سوى ظعن الحسين (ع) يقول الشيخ كاظم آل نوح: بالعيس حادي العيس يطوي البيدا ويجوب أغواراً بها ونجودا تخذى اذا مازجّها بهوادجٍ قد ضّمنت هيفا حسانا غيدا أمّا تجلّت في الدجى أنوارها أهوت لهن بنو الغرام سجودا ان الالفاظ: (انوارها، سجودا) تخفي خلفها دلالات أعمق من دلالاتها الظاهرة وتشير الى صورة لظاعنين لا يستبعد الظن انها صورة أهل البيت الذين يمثلون امتداداً للنور الرسالي المحمدي وقد يكون الظعن المقصود في المقدمة ظعن الحسين (ع) حينئذ يتحوّل وصف الظاعنين من ألفاظ الحسرة والفراق الى الاجلال والتعظيم والتقديس مما يجعل المقدمة مقدّمة ظعينة حسينية قد لا يحتاج الشاعرمعها الى وسيلة للتخلص الى غرضه يقول الشيخ كاظم سبتي: برغم المجد من مضرٍ سراةٌ سرت تحدو بعيسهم الحداةُ سرت تطوي الفلا بجبال حلمٍ أسُيرَّت الجبال الراسيات؟ يرقصّها الجوى انى ترامت تجيب البيد فيها الراقصات تخب بها ركائبها خفاقاً فترجع وهي منك موقّرات الدلالة العامة للمقدمة تشعر بالهيبة والوقار لان الشاعر تحدث عن ظاعنين استحقوا تلك المعاني فهم: (جبال حلم) وهم من علاة مضر فلم تكن تلك الظعائن تحمل ما كانت تحمله ظعائن الشاعر الجاهلي. إن تلك المقدمات تميّزت بطابعها الخاص في مراثي الحسين (ع) وانسجمت مع المرثية برؤية حكيمة قللت من اهمية التخلص الى الغرض بعد المقدمة ولا سيما التخلص بالاداة بدون تكلّف بفضل انسيابية التخلص والنفس الهادئ الذي تجسده تماهي المقدمة مع قناعة الشاعر. |