حاولتُ أن أهتف للحسين.. فعجزت كأنى فى صحراء الكوفة.. صارخًا من دون أن يسمعنى
انهمر دمعى المستعد.. وشجنى المُشرَع.. فمسح بكفِّه الدمع المشقوق فى الخد وتحت العين وفوق الشَّفه
فماذا تطلبُ بعدُ..
والطُّرُق سد، والحزن مد؟
جلستُ على مقعد بلاستيكى أحمر، فى النفق المحاط بالأرض، المحفور، بمتر.
المحطة، يحط عندها قلبى، وتستوحش العيون لون ورائحة النفق المطهَّرة المكيَّفة المصطنعة من هواء مريب، صاعد من أجهزة مُحكَمة تُدار بالأزرار الواردة من طقس فرنسى غريب، ينهزم أنفى أمام انكماش الألوان المزيِّنة للحوائط والجدران.
تنمحى بسمة الطفل المربوط بكفِّ أمه، عندما يقف عندى.
سيدة شابة، تشارك الهواء فى زاوية المحطة وجبة الانتظار اليومية، تفرد ساقيها خجِلَتين تحت ردائها، تضع ظهر ساقها اليمنى فوق اليسرى، تغطى رتق الجورب واتساخ الحذاءين، تقبض على حقيبتها فوق فخذيها منتفخة بغطاء الرأس، تلبسه لحظة هبوب الرياح.
فى قلبى مربَّع من الأحزان يتسع ويتشقق إلى مستطيل أجوف، إلى سداسى متزن، إلى دوائر رمادية، مثلثات محنطة، أقلام رصاص وريقات تضيع فى قاع الحقيبة، تذكرة المرور فى ردهة مركبة عامة، منديل ورقى مسحتُ به عدسة نظارتى.
أعلن مذيع محطة مترو الأنفاق عن تعطُّل مفاجئ فى كل الأدوات المؤدية إلى استمرار الأدوات الأخرى، ثم أطبق فمه وخرس.
بينما انبعثت موسيقى حادة قادمة من أجهزة معطَّلة بدورها، أُطفئت أنوار المحطة، وأظلمت وأقفرت وأبهمت وأقبرت، ثم عصفت ريح وأدبرت، فاقتلعت الحجارة والزلط و...
تزحف الطيور، زواحف من ثعابين وسلاحف، وتصعد النساء، وأثداؤهن المنكمشات المذعورات المتقلصات اندهاشًا، ضيَّقت القضبان ما بين المسافات، ثم تلاقت واشتبكت، وتَلوَّت والتفَّت، ثم استقامت، ثم انفرجت، ثم التأمت، ثم انفجرت شظايا من حديد صدِئ مفتَّت.
وانغمرت المحطة بالضوء الباهت، والمبهِت، فأُعمِيَت البصائر، وكُفَّت العيون، تطايرت المقاعد، وانهدمت اللوحات الإعلانية المعدنية، تحطمت التماثيل المصنوعة المصطنعة المزيفة البرونزية، وانكسرت الآلات الحافظة للتذاكر، وانطلقت الأوراق الصفراء الحادة المقوَّاة المطوية المنقوطة بالتواريخ والعلامات والأرقام ومفاتيح المحطات القادمة.
جاءنى ملَك الموت، دنا فدنوتُ، قبَّلنى فقبَّلت، عانقنى فعانقت، حطَّ الكفَّ، ونطق الحرفَ، ورسم الصفَّ، وقَصَّ الوصف، وابتسم فابتسمتُ، وأرحَلنى فارتحلت، لكنَّ يدًا وقَّفته، وشفاهًا كلَّمته واستأذنته فأذِن وأذِنتْ، فأذِن وأذِنتْ.
وعانقتنى اليد وصافحتنى، وهمست الشفاه فأسمعتنى صوته الدافئ، العابر ألفًا وثلاثمئة وسبعًا وستين من السنوات الهجرية، وأحدث فى قلبى حَدَثه، وأعمَلَ...
وخرجنا من النفق، كفُّه فى كفِّى، وأصابعه الكريمة فى أصابعى، وشفتاه اللتان قبَّلهما النبى تحدِّثاننى لؤلؤًا منثورًا.
وصلنا.
الصحراء مفتوحة السماء، منسيَّة الحدود، حطب وقصب، وخشب مُلقى خلف ربوة، والنار مشتعلة، والخيام منصوبة، والأحصنة واقفة متأهبة متهيبة.
تركتنى أصابعه، وأودعنى مكانى حتى لا أقترب، وسألنى الانتظار، فوجدته يقف فى الأرض المجدبة، وأمسك سيفه المشروع.
وفجأة..
ظهرت الخيول والسيوف والرماح والنبال والفرسان والرؤوس والأذرع، والزحام على الرمال المقلوعة تحت الحوافر.
وعرفته..
شمر بن ذى الجوشن، قائد ميمنة جيش عمر بن سعد، يمخر، ويدخل، ويحاصر بفرسانه ومُشاته ورجالاته، ورأيته- والله رأيته- يصرخ بالفم والعروق والأسنان والنواجذ والرموش، وجلده الأبرص:
- ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه!
فدخل عليه أحدهم، وهمَّ بالانقضاض على رأسه. وحاولت أن أحرِّك ساقى أو ذراعى شبرًا فى صحرائى عدْوًا إليه، فلم أستطع. فصرخت، فأسمعَتنى الصحراء الصرخة ألفًا، محفورة فى الريح والرمل والحجر.
- يا حسينُ.. حاسب يا حسينُ!
لم يسمعنى، ربما لأنى لم أنطق.
فانقضَّ القاتل على رأسه بالسيف، فارتفع وهبط وانغرس فى عمامته، فسقطت مسكوبة فى الدم وبالدم وللدم. وقف الحسين يحمل سيفًا وحيدًا وحده، والجيش بالألْف وراء الألْف يستدير ويلتفُّ ويقترب. ويصرخ ابن ذى الجوشن فى الحرس:
- اقتلوه!
فينصرعون ويسعرون.
وأصرخ فأنخرس، وأنشطر فأحترس، وأهتف فأحتبس:
- لا تقتلوه! إنه ابن النبى لا كذب! لا تقتلوه، واتركوه لى، لأجل خاطرى وخاطر أمى!
فيقتربون، ويزحفون، ويُلقون بسيوفهم فى الجسد المثقل بالتاريخ، وبالمصحف، وبالدين، وبالعدل، وبالله، وبمحمد جَدِّه وسيِّده.
ينغرس الرمح فى صدره، فيكبو.
وأبكى!
يفترس السيف جسده، فيجثو.
وأبكى!
مطعونًا من عشرات الأذرع بعشرات السيوف! فينام على الأرض، وأسمع صوت النبض يعلو ويرتفع، ويقتسم الريح، ولون الدم وصفرة صحراء الكوفة، نصف سماء الأرض.
يملأ أذنى، ويعبِّئ صدرى، ويلثم أنفاسى، ويُمطِرنى قطر الماء فى اليوم الشتوى فى شرفة منزلنا بالبلدة.
وتدنو الأحصنة وتعبر فوق جسده، اثنا عشر حصانًا فوق الصدر والظهر والعصب والجلد والعظم والمرفق والرسغ، وتنسحب.
ويقترب ابن ذى الجوشن جنب عمر بن سعد، ينادى خولى بن يزيد أن ينزل عن فرسه فيحتز رأس الحسين.
فأصرخ:
- يا حسينُ!
ألهث ظنًّا منى أنى أجرى، فأعود إلى الخلف، كدوَّامة بحر ألقتنى فى جُب الموت يوم تركتنى الرحلة وانصرفتْ، فناديت المُشرف أن يرجع إلىَّ يُنقذنى، أمد اليد وأصرخ: الحقونى. لا يجيب المُشرف، فأعيد الصرخة للمُشرف.
- يا حسينُ!
لا يسمعنى المُشرف، ولا الحسين، ولا شمر بن ذى الجوشن، ولا عمر بن سعد، ولا خولى بن يزيد. فيهبط عن فرسه ويركب القبح إلى المسافة الفاصلة بينه وبين الجسد المسجَّى الملقى.
يقترب. ويرفع سيفه بقبضته إلى الهواء، وبالذراع إلى الفضاء. يتردد، يتوجس، يتريث ويتفكَّر، ويقرِّر، فيمرِّر السيف إلى الجسد، إلى الرأس، فيقطعه وينزعه ويرفعه، ويحمله إلى شمر بن ذى الجوشن، فيأخذه، ويلكز فرسه ويعدو إلى الصحراء.
ويسافر من عيونى الجنود والسيوف والرماح، وترحل.
وأهتف:
- يا حسينُ!
فتتحرك قدماى، وأجرى، وأقترب، وأنكفئ، وأجثو جنب الجسد وأبكى، وأجد اليد على كتفى حانية، تنهمر بالعطف والحنو:
- قم.
فأقوم فأجده، فأسعد، وأبتهج، وأرفرف بالفرح، وأعدو بالجرى كما جريت فى الزمن الماضى، وأصرخ وأمرح، وأقبِّل خدَّى أمى «فى الحلم أم فى العِلم؟» وأحمل فاطمة طفلتى الناعمة الناعسة، وأطير أطير حتى يأخذنى بكفِّه، يُهدِّئ روعى، ويؤذِّن فى سمعى، فأرتكز وأطمئن، وأنشرح وأتيسَّر.
ويأخذنى. ونخرج من صحراء الكوفة ونسير، حتى يأكل التعب عظمى، ويقتل خطوى، ويوهن عزمى.
ألتفت إليه وقد أحاطته الصحراء بصفرتها وهجيرها وهضبتها ورسمة الشمس فوق الجبال، ولهب الرمال المعصورة بأشعة النهار الراحل.
كان العَرق يُغرقُنى، ويسبح فى جِلدى، ويمخر مسامِّى، بينما كان وجهه تحت العمامة منيرًا مضيئًا باسمًا حانيًا، فى عينيه بشارة النور الآتى، لون الحقيقة الذاهبة، لا العَرق عرف طريقه إلى جبينه، ولا تعبٌ خطَّ خطواته إلى قدمه. فاقتربت:
- سيدى وإمامى، هل لنا فى قطرة راحة نبحث فيها عن قطرة ماء؟
دار بعينيه ورأسه إلى الصحراء، تحاصرنا وتخبطنا وتعتقل فينا المحاولة.
قال لى وقد افترَّ فمه عن ابتسامته الخلودية، وقد مسَّت أصابعه منكبى، فاستوى واعتدل:
- إنك لن تستطيع معى صبرًا.
وخزتْنى الجملة، فبكيت، وانهمر دمعى المستعد، وشجنى المُشرَع، فمسح بكفِّه الدمع المشقوق فى الخد وتحت العين وفوق الشَّفه.
وعادت كلماته:
- إنك لن تستطيع معى صبرًا، وكيف تصبر على ما لم تُحِط به خبرًا.
دنوت حتى صدره، ووضعت رأسى على كتفه، وانهمرت فى دمع لا معدود، وحزن لا مردود، وجرح لا محدود.
ربَّت علىَّ، وقال:
- يا ولدى، بعد مئات السنين، كشف الله لك صحرائى، ورسم لك صورتى، وأعلمك بحالى، وأراك قتالى، فماذا تطلب بعدُ، والطرقُ سد، والحزن مد؟
فأخذنى بكاءٌ شديد، وغمٌّ مقيم، وكربٌ مستقر، وركبنى الحزن، وأغرقنى الدمع، وانشطر قلبى، وتَهجَّد لسانى، وشعرتُ ضلالى، ورأيت متاهتى.
فالتفت إلىَّ الحسين حانيًا باسمًا:
- لا تخَف، لن أتركك وحدك، وسآخذك حتى دارك. هيا.
فأمسكت بطرف عباءته، ومضيت نحو شارعى، أبحث عن بيتى.
أدهشنى هذا الهدوء الكامل، فى ذلك الشارع الذى لا يهدأ أبدًا، تزمجر مركباته العامة، وتزدحم إشاراته، وتعصف الضوضاء بآذان العابرين، والمنتظرين على محطات المركبات قدومَ حافلاتهم المزدحمة.
لم نكَد نمر على الدوران المنعطف إلى جسر النهر الذى يفصل بين جرحى المدينة، حتى تمكَّنت منى الدهشة تمامًا، وأنا ألجأ بخوف أصابعى إلى أمن كفِّ الحسين.
الشارع ساكن إلا من بعض العابرين، والدكاكين مُغلَقة، والأبواب مُقفَلة، والستائر تحجب مداخل أبواب المطاعم الخالية، والأسوار المحيطة بالمعاهد ازدادت ارتفاعًا وبلغت حدًّا شاهقًا!
كان الحسين سائرًا مطمئنًا، على الرغم من غرابة المكان ووحشة الشارع وأسفلت الطريق المحاط بالأرصفة المبلَّطة، وطلاء البياض والسواد اللزج الطازج يجذب نعل الأحذية للالتصاق.
لكنَّ الأمر تكشَّف، والسر انكشف، عندما بدأت صفوف الجنود المتراصة على الجانبين، تظهر لعينى التى لم تكن قد اعتادت الانتقال من الصحراء الأولى إلى الصحراء الآخرة.
نظر الحسين متمتمًا، وأنا أخشى إرهاق عينيه بالمستدهشات الجديدة، كانت أَكُفُّ الجنود الخشنة الثقيلة تمسك بدوائر حديدية تخر.
سبحت عيون الحسين، وأنا أسترق السمع إلى صوت الرئىس يخرج من المذياع المثبَّت فوق سطح مقدِّمة سيارة نقل الجنود، الرابضة جوار الرصيف، يحكى عن أحدث انتصاراته، وآخر وعوده، وحقيقة وعوده.
صوت المذياع يكسو آذان الجميع، ويستولى على هدوء الشارع المقتول صمتًا.
خَلت النوافذ والشرفات وأسطح الدور والبنايات من سكانها، إلا عددًا من الرؤوس التى تخرج فوق الأسطح تستكشف سيرة الأمن ومسيرة الحراسة، وتتربص بالجواسيس والمخربين المزعومين.
اشتدت قبضة الجنود على الحديد، وارتفع «زعيق» الضباط فى أجهزة البث، اهتزَّت النسور.
أحاط الحسين المكان بنظرته وهو يتعجب من البناية الزجاجية الشاهقة، والحروف الإفرنجية، والتراب الذى يكسو جدار البنايات القديمة ونوافذ الناس المغلقة.
تقدَّمت «صفارات» لتنهى حالة السكون المصطنَع.
أسرعتْ نحو الشارع سِتُّ سيارات من طراز فرنسى حديث، مُجهزة ومصفَّحة، ومثبَّت فوق سطحها أعمدة هوائية، تخرج من خلف زجاجها عيون البصاصين والخفراء والحرس.
عبرتُ. واستمات جندى فوق الحديد حتى دَمِيت كفه، بينما انطلق عَرق كثيف من جبين جندى آخر حتى بلل ياقته، ثم سقط فوق مقدمة حذائه.
جاءت عشرون درَّاجة مفزعة، يقودها لابسو الخوذات، قابضو الأكف فوق مِقوَد الدراجات، تزمجر وتهدر بصخب مدبر، تسير على الجانبين فى صفين منتظمين وبإيقاع واحد من لهث العجلات.
تقدمتْ عربات عسكرية مكشوفة، جلس على جانبيها العسكر بملابسهم وأسلحتهم تأهبًا. الصدور مفتوحة، ومستقيمة الظهر، يضغط الفك فوق الفك، وتحفر مقدمات الأحذية بطن السيارات.
ثم انطلق نفير متقطِّع.
ومرَّت عربات مُغلقة سوداء، ثم انكشفت عن سيارة طويلة فارهة سوداء.
خرج الحسين من حصار الجنود، وأزاح سور الحديد والحبال، هبط من الرصيف إلى عمق الأسفلت ووسط الطريق، ووقف قُبالة السيارة تمامًا، التى أصدرت صريرًا مزعجًا، التهمت عجلاتها الأسفلت وهى تحاول التوقف المفاجئ.
برقت عيون الجنود، وارتفعت الأسلحة، وتأهب القناصة، وتوقفت الدراجات البخارية، ونزل الجنود من سياراتهم، وانفتحت النوافذ من السيارات، وهبطت مئات الأقدام من المركبات، وشُرِعت أجهزة البث فوق الشفاه.
حاولتُ أن أهتف للحسين، فعجزت كأنى فى صحراء الكوفة، صارخًا من دون أن يسمعنى، باكيًا من دون أن يرانى، أردت تحذيره، وعجزت عن إنذاره، وهتفت لتوقيفه، وخرست عن إبعاده.
وقف الحسين ثابتًا مستقيمًا، شامخًا هائلًا، استلَّ سيفه من موطنه، رفعه فى الهواء مناديًا:
- أخيرًا يا يزيدُ!
ألقى بعباءته على الأسفلت الساخن.
- انزل يا يزيدُ!
ارتعشت أكُفٌّ، واهتزت أقدام، وترنحت أسلحة، وتَسمَّرت أبدان، وانشرخت صفوف، وتَخوَّفت، ثم شعروا أن الأمر هزل، وأن الرجل مخرِّف، فاستكانوا للطمأنينة.
واجتمع الجند من كل صوب، وصرخ الحرس فى كل حَدَب، وأحاطوا بالحسين فى دائرة واسعة، ووجهوا إلى صدره الأسلحة.
وأنا أصرخ.
- يا حسينُ!
فلا يسمعنى، ولا يجيب.
أنادى خائفًا مرعوبًا من موتة أخرى وذبحة ثانية.
- يا حسينُ!
أحاول أن أنبههم، أن أستعطف قلوبهم، أن أوقظ عقولهم:
- إنه الحسينُ بن على بن أبى طالب، حفيد النبى صلى الله عليه وسلم، ابن بنت رسول الله!
انشغلوا فى السيوف والبنادق والرماح وأسنة المدافع سريعة الطلقات. انغمسوا فى الدروع والسيارات، فى الرمل، فى الأسفلت، فى أوامر ابن ذى الجوشن، وصوت المذياع يعلن تهليل الجماهير للموكب.
هبط الرئيس من سيارته، ببذلته السوداء وقميصه الأبيض، ورباط عنقه المُحكَم، تتسع ابتسامته المستفهمة، خَطَا نحو الحسين، وقد أفسح جنده له مكانًا.
ألقى الرئيس أمره:
- لا تقتربوا منه.. إننى أريده.
لكنه لمَّا دنا ورأى، ونظر فى عينيه وقبضة يده، شُلَّت عيناه، وعجزت قدماه، وبُهت رأسه، واتسعت أسنان فمه عن ذعر أبدى.
صرخ فيه الحسين:
- بارز يا يزيدُ، وأَنْهِ صراعًا طال أمده، وقتالًا كثر دَمُه، أرِنى قُوَّتك من دون حرسك، شجاعتك من دون فرسانك.
أبعد عمر بن سعد وابن ذى الجوشن، واقترب وبارز، ارفع سيفك وقاتل.
أنا الحسينُ. أبحث عن عدل قتلتموه، وبلد أفنيتموه، ووطن دمَّرتموه، وشعب قصمتم ظهره، وركبتم دُبره.
هتفتُ بالحسين مرتجفًا محزونًا جزعًا ملهوفًا مهزومًا مكسورًا:
- يا حسينُ!
تشنَّج الحراس، ولوَّح كبيرهم صارخًا:
- ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه!
اقترب العسكر بالأسلحة والمدافع والبنادق وخوذات الجنود وثياب العسكرية والأحذية الثقيلة، والصفوف المنظَّمة والطلقات المنتظمة.
صرختُ، وعدوت، وجُننت، وقفزت، ولطمت وجهى، وكسرت عظمى.
أطلقوا الرصاص، تخرق انفجاراته من فوهات البنادق الأذن و القلب وأكباد الرجال، انغرس فى جسد الحسين، وانبثق الدم من جسده مندفعًا غريزًا طاهرًا.
تَرنَّح، وجثا على ركبتيه، ورقد بجسده المغربَل بالرصاص، الغارق فى الدماء، ومات!
هبط أحدهم من سيارته الضخمة، ممسكًا بمدفع له نصل معدنى كالسيف، اقترب من جسد الحسين المُسجَّى. يقترب، ويرفع السيف إلى الهواء، وبالذراع إلى الفضاء، يتردد، يتوجس، يتريث، يتفكر، ويقرِّر، فيمرِّر السيف إلى الجسد، إلى الرأس، فيقطعه وينزعه ويرفعه ويحمله إلى سيارته، فيأخذه، ويأمر سائقه فيمضى.
ويعدو الرئيس فى الشارع يلوِّح للناس ويحيِّى الجموع!
وترحل عنى السيارات والجنود والمدافع، والسيد والسادة، والحراسة والقناصة.
وأهتف:
- يا حسينُ!
وحيدًا فى الشارع، مقتولًا مذبوحًا غارقًا فى دمه السابح على الأسفلت.
أقترب منه. لكن المركبات العامة والسيارات الخاصة والعابرين والنفير المنطلق والأقدام المسرعة والدراجات اللاهثة، والأحصنة تجرُّ العربات الخشبية، تمنع عنى الحسين، تدوس جسده، وتدهس بدنه.
أصرخ:
- يا حسينُ:
فيضحكون، ويسخرون، ويهزَؤون، ويرسمون بأصابعهم علامات ضياع عقلى، وذهاب مُخِّى!
|