ماذا ننتظر بعد ١٠ سنوات ؟ |
بعد عشر سنوات على تغيير النظام ودخول العراق في عملية سياسية جديدة قائمة على توزيع السلطات والتعددية والانتخابات والدستور يفترض اننا اسسنا تقاليد عمل سياسية تحمي التطور السياسي وتعزز الديمقراطية وتحقق السلم الاهلي والمصالحة الوطنية القائمة على سيادة القانون والانتقال من مرحلة الفساد الى مرحلة النزاهة ومن مرحلة الكواليس والخفايا الى مرحلة الشفافية ومن مرحلة الحاق الهيئات المستقلة بالحكومة الى توطيد استقلاليتها وقرارها الدستوري بدون ضغط او اكراه. ومن مرحلة الفوضى السياسية والاقتصادية والاعلامية الى مرحلة الاستقرار السياسي وتعريف هوية الاقتصاد العراقي واستقلال الصحافة ووسائل التعبير والتمسك بالالتزامات القانونية ومحاسبتها على التمييز والتفرقة واثارة الفتن والاضطرابات وتحويل البرلمان الى ساحة لمايكروفونات وكاميرات الفضائيات التي حولت اغلب النواب من مشرعين ملتزمين بالقسم الذي اقسموه الى معلقين سياسيين متطرفين مع هذا الطرف ضد ذاك بروح قتالية تساهم في اضطراب نفسيات المواطنين وتصعيد قلقهم اليومي وتخويفهم من المستقبل وفي كل هذه الفوضى التي نعيشها هناك قلق عام على مستقبل القضاء ودوره في ترسيخ سيادة القانون واهمية ذلك في العدالة والمساواة امام القانون وفي الفرص المتعدد مثل فرص العيش وفرص التوظيف وفرص التعليم وفرص الصحة وفرص الكرامة. فبدون سيادة القانون لن تتحق العدالة وفي ظل انعدام استقلال القضاء لن يكون هناك شعور بالامان والحق والمستقبل. اذا لم ننجح خلال عشر سنوات، وهي عقد كامل من حياة الفرد ومن حياة الشعب، في ترسيخ قيم ومعايير الديمقراطية والاستقرار السياسي والعدالة وسيادة القانون والتمسك باحكام الدستور وتوسيع فرص المشاركة في الحياة السياسية للاجيال الجديدة وفي تجديد الفكر السياسي العراقي واشاعة ثقافة التسامح والتضامن ، واقامة دولة الرفاهية والسعادة ، وتقليص الازمات واعادة اعمار البلاد التي خربتها الحروب والسياسات العشوائية، وتوحيد المجتمع العراقي على اساس وطني، فكم علينا ان ننتظر للبدأ بذلك وتجنب العودة الدائمة الى نقطة الصفر او الى ما شغف بتسميته كثير من العراقيين، السياسيين غير السياسيين ، اي (المربع الاول) الذي اصبح اصطلاحا شعبيا في الشارع بعد ان شاعر وتكرس في البرلمان وفي تصريحات النواب؟ لدينا الكثير جدا مما حققناه: الانتخابات، البرلمان، الحكومة المنتخبة، الحريات ، الضمانات، الدستور، التعددية الحزبية، وغيرها. ولكن كل ذلك يشبه كنزا لا نستطيع الوصول اليه.. نراه ولا نمسكه. كنز فيه جواهر ثمينة مثل مبدأ تكافؤ الفرص، مثل مبدأ المساواة امام القانون، مثل مبدأ الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعي. مثل مبدأ توزيع السلطات، مثل مبدأ فصل السلطات ، ومبدأ استقلال القضاء وحياديته وابعاده عن الصراعات السياسية ( المادة ٨٧). مثل مبدأ حرمة الاموال العامة (المادة٢٧ اولا من الدستور) وبدينا ايضا مبدأ الكفالات في المواد ٣٠ و٣١ و٣٢ و٣٣ حيث (تكفل) الدولة الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية . ولكن.. وقد اعتاد كثير من العراقيين على تبني كلمة لكن التي تختص بالاستثناء. ولكن لم يحدث كل ذلك. فما حدث هو العكس. ففي ظل غياب (الدولة) لا توجد كفالات. فالدولة مغيبة وغائبة، ضعيفة وشاحبة . تشبه بيت المتنبي الذي يقول: كفى بجسمي نحولا انني رجل لولا مخاطبتي اياك لم ترني. فالدولة ليست اجهزة الجيش والشرطة والامن ، وانما هي المواطنة التي تنال حقوقها التي نص عليها الدستور. واذا تحقق ذلك فان الدولة تكون منظمة للاشراف على حل النزاعات التي تنشأ عادة في الحكومة وفي البرلمان وفي المجتمع وفي الحيوات كافة، السياسية منها والاجتماعية، الاقتصادية منها والثقافية. ماذا يحدث في بلاد النهرين؟ قد يشعر البعض اننا حققنا الكثير. وهذا شعور عادة ما يكون لدى اهل الحكم. فمشكلة الحكم انه يتصور انه انجز الكثير وان الاستياء الشعبي هو مؤامرة وقصر نظر وانعدام ولاء. لكن الحقيقة هي اننا قد نكون على شفا الافلاس ، اذ اكد تقرير بريطاني ان العراق يمكن ان يواجه افلاسا يعجز فيه عن تسديد رواتب موظفي الحكومة خاصة وان الانتاج النفطي، حيث التقرير يتراجع بدل ان يحقق البشارة القائلة ان الانتاج يمكن ان يتجاوز عشرة ملايين برميل يوميا بعد عام ٢٠١٥. كما ان الموازنة بنيت على اساس ٩٠ دولارا لسعر البرميل في حين انه وصل الي ١١٠ دولار مع عجز في الموازنة يقدر بـ ٥٠ مليار دولار. اي اننا ربما نكون امام كارثة حقيقية في وقت تتصاعد فيه الاتهامات السياسية الى حد يهدد بنسف ما تبقى من استقرار نسبي هنا وهناك. اذا اخذنا القياس الشعبي معيارا للرضا والقبول فاننا سنجد استياء شعبيا واسعا. طبعا هناك رضا وقبول من جماعات واسعة عن الاداء الحكومي لاسباب لا علاقة لها بالخدمات والاعمار والامن والاستقرار وانما لاسباب سياسية وايديولوجية وهي ليسا معايير ديمقراطية. اذا فكرنا من ناحية واقعية فاننا نكتشف انه لتجاوز قانوني واخلاقي كبير ان يقبض اكثر من ٣٠٠ نائب رجالا ونساء من الذين لم يكن لهم اي دور في النضال ضد الدكتاتورية، وبعضهم كانوا جزء من تلك الدكتاتورية ، مبلغ ١٥ مليون دينار شهريا اضافة الى رواتب الحمايات ومصاريف السيارات وايجار البيوت، ولذلك اصبح العراق اول بلد يشهد هذا الاقبال الواسع على الترشح للبرلمان او مجالس المحافظات. فالسياسة اصبحت مغنما تجاريا قبل ان تصبح خدمة وطنية، وكانت الرواتب التقاعدية واالمتيازات البرلمانية ، وماتزال، موضوع جدل وخلاف بين الشعب والبرلمان. المشكلة الاساسية التي نعاني منها هي ان الدولة موضوع (خارجي). اي ان الدولة ليست جزءاً من الشخصية السياسية العراقية.ان الدولة موضوع سياسي داخلي في النظام الديمقراطي. اي انها الاطار الحقوقي للعمل السياسي. فبدون الدولة لا يوجد معيار لقياس العلاقة بين السلطة والمواطن. اي ان الدولة موضوع مشترك مع جميع المبادئ الديمقراطية من الانتخابات الى الخدمات. فالانتخابات لا تُجرى لكي تهدد الدولة ووحدتها وتلغي قوانينها واطارها الحقوقي الذي يصون عمل الدستور وسيادة القانون.ان اجهزة الحكومة في الاصل هي اجهزة الدولة، وفي النظام الديمقراطي تستعير الحكومة هذه الاجهزة للمدة التي تحكم بها ثم تعود الى الدولة ، او تبقى لها.لكن الامر مختلف لدينا تماما. فحتى القضاء يصبح ملك الحكومة وليس الدولة. ويتحول القانون الى اداة سياسية صارخة الاستخدام. كما يتحول المال الى مال سائب لانه ملك الدولة وبالتالي يتم تحويله الى ملك الحكومة لينتهي الى مال خاص لمن يحكم. ان الصراع على المال العام سمة مفضوحة في نظامنا السياسي الحالي. اين القانون لنسأل: اين المساواة امام القانون؟ يعاني المواطن العراقي من غياب تحديد هويته الواقعية. يوجد في الدستور ما ينص على توصيف هذه الهوية من خلال عدد من الفقرات والمواد.لكن يفتقر المواطن، على صعيد التطبيق، الى صب هذه الهوية في واقع يومي ملموس. فالمساواة امام القانون لم تتحقق رغم ان الدستور في المادة ١٤ من الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات، وفي فصله الاول باب الحقوق، الفرع الاول الحقوق المدنية والسياسية ينص على ان (العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي). لكن الواقع يؤكد ان هناك تمييزا صارخا ومفضوحا. فالفرد العراقي لا ينال حقوقه وفق هذه المادة، مرة بسبب الدين واخرى بسبب المذهب، مرة بسبب الجنس واخرى بسبب الاصل. مرة بسبب الرأي واخرى بسبب المعتقد السياسي. هذا النص هو نص لايجاد دولة. وحين توجد الدولة على اساس المادة ١٤ من الدستور العراقي ستقوم الدولة بالغاء هذا التمييز وتطبيق المساواة امام القانون.اذا اخذنا مثلا التوظيف في ما نسميه الدولة فسنجد ان التوظيف يتم بناءً على التمييز الذي تمارسه الحكومة واحزاب الحكومة. ولدينا اكثر من مستوى من مستويات التوظيف الحكومي. فالخدمة الخارجية موزعة على اقارب وابناء وعوائل، يضاف الى ذلك التمييز بسبب العشيرة او التمييز بسبب الدين او التمييز بسبب الرأي. وهكذا اذا اخذنا الهيئات التي نسميها مستقلة او الوظائف الخاصة او الوظائف التي تتحكم في مصائر المواطنين سنجد انها وظائف تكرس التمييز بكل الوانه المذكورة في المادة ١٤. قد يكون الحرمان السابق من هذه الوظائف احد اسباب اعتبارها مغنما حكوميا. ولكن هذه الوظائف اصلا ملك للدولة وليس للحكومة. اذ ان الحكومة تستعير الجهاز الاداري من الدولة للمدة التي تحكم خلالها وتعيدها الى الدولة لتبقى في خدمة الحكومة القادمة.. ولكن اية حكومة قادمة ستكون ربما مضطرة لتغيير تلك التوظيفات باخرى غيرها لكي تكرس النهج الحكومي القائم على التمييز نفسه. ولذلك لا يوجد تراكم.ولا تتكون خبرة، ولا تتوسع تجربة، ولا تنجز حاجات المواطنين التي وجد الجهاز الاداري اصلا لتلبيتها وانجازها. ليست المشكلة القائمة في العراق الان مشكلة سياسية. فالسياسة اصلا مرتبطة بثقافة تقوم على اقصاء الاخر القومي او الديني او المذهبي او الرأوي. لا يوجد ايمان بالتعددية والمشاركة. وهذا الايمان في الواقع هو فكر ثقافي قبل ان يكون مبدأ سياسيا. ولذلك تختلف المعايير الثقافية لقياس ما هو صحيح وما هو غير صحيح، لقياس ما هو ايجابي وما هو سلبي ، لقياس ما هو نافع للدولة وما هو نافع لحزب حاكم.ان الحكومة التي تملك معاييرها الحزبية الخاصة وتضعها فوق الدولة هي حكومة ديكتاتورية حتى لو كانت منتخبة. ذلك ما فعله المنتخب موسوليني الذي كان يساهم في بناء ايطاليا لينتهي به المطاف للتحالف مع هتلر الذي مد اطول شبكة قطارات في المانيا لتخدم خططه الحربية ويدمر المانيا وربع العالم. هل نواجه الافلاس؟ اذا صدقت تحليلات او نبوءات مراكز الابحاث من ان العراق سيواجه الافلاس التام بعد ثلاث او اربع سنوات اذا ظل وضعه السياسي والاقتصادي بالشكل الذي عليه الآن فذلك يعني ان دائنين جدد لن يقبلوا بغير حرب من نوع ما. مثلهم مثل دائني دول الخليج التي (تبرعت) اول الامر لاشعال حرب الثمان سنوات مع ايران ثم تحولت تلك التبرعات الى (ديون) ما نزال ندفعها حتى اليوم. يذكر التقرير ان انتاج النفط قد هبط مائتي الف برميل يوميا، وهذا يعني اننا نخسر قرابة ثمانية مليارات دولار سنويا . واذا اضفنا لذلك مبلغ خمسة دولارات عن كل برميل للمحافظات المنتجة للنفط ، وان عدادات التصدير ماتزال تخضع للتخريب والتهريب فان التوقعات الكارثية قد تتحقق قريبا جدا. كنا نعتقد ان العراق قادر من خلال موارده النفطية على انشاء صندوق للاجيال، فاذا به يعاني عجزا في الميزانية.وكنا نعتقد ان نظاما للضمانات الاجتماعية سيكون قادرا على الغاء خط الفقر فاذا بنا نملك اربعة ملايين عائلة تعيش تحت هذا الخط . وكنا نعتقد ان سيادة القانون ستكون الحماية الاكثر حظا للشعب فاذا بنا نشهد مدنا واحياء تتحول الى ثكنات بقوانين عسكرية يفرضها من يتولى حماية تلك المدن وتلك الاحياء. وكنا نعتقد اننا سنعيد بناء الثقافة العراقية على اسس وطنية تعددية وتسامحية وانتاجية فاذا بنا نكرس ثقافة النظام المنهار واساليبه ونعيد انتاج توجهاتها وندق على طبولها وننفخ في مزاميرها. صناعة الازمات هي السمة الابرز في العملية السياسية منذ التغيير حتى الان، لا يمكن لوم طرف لحساب طرف آخر. لكن الحكومة، باعتبارها السلطة التنفيذية القادرة والمسؤولة تتحمل مسؤولية حل الازمات وانهائها. كانت المشاركة السياسية وماتزال تسمى المحاصصة. والسبب واضح وملموس هو الاشتراك بحصص متبادلة لارضاء الاطراف . والخلاف هو على نسبة هذه الحصص وليس بسببها. المشاركة وليست المحاصصة هناك فرق بين المشاركة السياسية التي تتنج من احترام التعددية والاستفادة من الخبرة وتبادل الرزي والحوار الوطني ، وبين المحاصصة اليت تنتج التوتر والازمات والخلافات الحادة التي تصل الى تعطيل العملية السياسية وايصالها الى طريق مسدود يحول التعددية الى شعار : اما معي او ضدي. في هذه الحالة يصبح النقد عداء ، والرؤية السياسية معارضة من الجانب الابعد، والاختلاف في التقييم مؤامرة. والسبب لهذا ايضا واضح وملموس فلا عراقي ما يزال (عضوا) في حزب وليس (مواطنا) قي دولة. فالمطلوب من جميع العراقيين بلا استثناء ان يكونوا متعصبين، يكونون متعصبين للحزب ينتمون اليه ، والذي (يجب) ان ينتمي اليه الجميع. وهي اطروحة بعثية صنعها صدام مبكرا، اي في عام ١٩٧١ وتقول(كل عراقي بعثي وان لم ينتم) فالعراقي في هذه الحالة اصبح مواطنا في الحزب الحاكم وليس مواطنا في دولة. وهذه الاطروحة الاستبدادية القمعية الغت الدولة كما الغت المواطنة. ولسوء حظ العراقيين فان المطلوب منهم الان ايضا ان يكونوا (مواطنين) في حزب وليس مواطنين في دولة. البلاد التي تمجد حتى الكلاب! هاتشيكو .. هو اسم الكلب الشهير في اليابان. صنعوا له تمثالا. لكن اليابان احتاجت خلال الحرب العالمية الثانية، الفولاذ والنحاس والحديد والبرونز لصب مدافعها وصنع طائراتها واسلحتها ، فاضطرت اليابان الى اذابة تمثال هاتشيكو، لكن بعد ان صبوا له قالبا جبسيا احتفظوا به. وبعد الحرب، وخلال اعادة الاعمار، اعيد صب تمثال هاتشيكو ليتحول الى ملتقى للمواعيد واللقاءات الشبابية لانه اصبح معلما.. ومشهورا الى حد انتاج فلم هوليودي مثله الممثل ريتشارد غير قبل سنوات. الا تبدو القصة ساذجة وغير مبررة؟ لا. فالكلب هاتشيكو اشتهرت قصته كثيرا فقد اشتراه صاحبه البروفيسور في كلية الزراعة في جامعة طوكيو هيداسابورو اينو، وكان هذا الكلب يذهب لمقابلة سيده كل يوم في محطة القطار بمدينة شيبويا حتى عام ١٩٢٥ عندما لم يعد البروفيسور الذي توفي اثر حادث تعرض له في الجامعة. لكن الكلب ظل تسع سنوات، حتى عام ١٩٣٥ ينتظر في باب المحطة كل يوم لعل سيده يعود. وبعد ان اشتهرت قصته وشهد الناس انتظاره اليومي قام احد النحاتين بصنع تمثال له عام ١٩٣٤ وكان هاتشيكو حاضرا حفل افتتاح التمثال امام محطة شيبويا. ليست القصة بعنوان واحد فقط : الكلب الذي ظل ينتظر صاحبه بعد ان مات. ففيها اكثر من مغزى سياسي وثقافي . فيها اكثر من عنوان. |