كما ذكرنا في الحلقة السابقة الفائتة منذ أمد غير قليل ، وفي إيجاز الإعادة تركيز الإفادة، إنّ لقب البديع ليس بلقبًا مستحدثً في عهد ابن المعتز ،ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة ، سماه به مسلم بن الوليد ، وكان يُعرف قبل ذلك بـ (اللطيف) (111) ، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء ، هذا من حيث المصطلح البلاغي ، أمّا من الناحية اللغوية ،فأكرر ما ذكرت ، وللإفاضة ، وكل شيء بمقدار ، حسب ما يقتضيه المختار : المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه . وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد . ويقال : ما هو مني ببدع وبديع ، قال الأحوص : فخرت فانتمت فقلت : انظريني *** ليس جهل أتيته ببديع وأبدع وابتدع وتبدع : أتى ببدعة ، قال الله - تعالى : ورهبانية ابتدعوها ، و قال رؤبة : إن كنت لله التقي الأطوعا *** فليس وجه الحق أن تبدعا وبدعه : نسبه إلى البدعة . واستبدعه : عده بديعا . والبديع : المحدث العجيب . والبديع : المبدع . وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال . والبديع : من أسماء الله - تعالى - لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها وهو البديع الأول قبل كل شيء (112) وقد ورد مرتين في القرآن الكريم بتمام لفظه : " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " ( البقرة 117) ، وقوله تعالى : " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (الأنعام 101) . ونستشهد لك بشاعرين آخرين من العصر الأموي ، بما ضمنا من البديع لغة ، قال عمر بن أبى ربيعة : فأتتها فأخبرتها بعذرى *** ثم قالت أتيت أمراً بديعاً وقال الفرزدق : أبت ناقتى إلا زياداً ورغبتى *** وما الجـود من أخلاقه ببديع قال ( لسان العرب ) لسان العرب مادة "بدع": " بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه: أنشاه وبدأه... والبديع والبٍدْع: الشيء الذي يكون أولا، وفي التنزيل: "قل ما كنت بدعا من الرسل"، أي ما كنت أول من أرسل، قد أرسل قبلي رسل كثير... والبديع المحدث العجيب. والبديع المبدع. وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال...وأبدع الشاعر :جاء بالبديع ". وترجع بداية استعمال كلمة البديع كمصطلح إلى الرواة، وهي تعني عندهم الجديد والطريف، يقول الجاحظ: " وقال الأشهب بن رميلة : إن الألى حانت بفلج دماؤهم ****هم القوم كل القوم يا أم خالد
هم ساعد الدهر الذي يتقى به *** وما خير كف لا تنوء بساعـد
أسود شرى لاقت أسود خفية **تساقوا على حرد دماء الأساود
قوله "هم ساعد الدهر"، إنما هو مثل، وهذا الذي تسميه الرواة البديع.(112) الراعي كثير البديع في شعره، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار،(113) ، وتحدثنا بحلقة موسعة عن بشار ، وتكلمنا عن الصريع المسلم ، وأبي نؤاس المؤنس، ودعبل الموقف ، وأبي تمام المبدع ، والبحتري الرائع ،وعن شطر من بديع ابن المعتز الشاعر الناقد ، وواّصل معي في هذه الحلقة ، قفزة البديع ونقد الشعر عند ابن المعتز ، وما بعده ناقلا موجزاً.. محللاً... مقارناً... مستنتجاً دون أن أذكر المراجع والمصادر ، لأنني سأتصرف بها أبان ضمها لمشروع الكتاب المُعدّ لتجديد الشعر العربي منذ بدايات العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث!!! عودة لعلم البديع القديم فهو أعمُّ من الحديث حتى شمل بديعه والبيان : إذن ما هذا البديع المبدع ؟ لنرجع لابن المعتز (ت 296 هـ / 908 م) وكتابه (البديع) الذي صدره بقوله "...وقد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدناه في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه " (114)) ، ثم عدد أبوابه الخمسة المتعارف عليها في العصر الذي سبقه ، أي عصر روّاده ، وهي : الاستعارة، والمطابقة، والتجنيس، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي، الذي أخده عن الجاحظ ( ت 255 هـ) ، وقد عرّف وقسّم ومثـّل لكل باب ، ولكنه خلط بين العلوم حسب مفهومنا المعاصر للبلاغة ، فذكربـ (بديعه) التشبيه والاستعارة وهما من علم البيان العربي، وجاء بالكناية ، وأراد معناها اللغوي، لا المعنى الاصطلاحي الضيق في يومنا ، فبديعه الماضي ، بلاغتنا الحاضرة ببيانها الرفيع من استعارة ومجاز وتشبيه و كنايه ... إضافة لبديعه من (بديع ) معاصر تضمن الجناس والطباق والمقابلة...، وتقلب هذا الاسم (البديع) إلى ( نقد الشعر) في عرف قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) ، وإلى (صنعتي الشعر والنثر) في (كتاب الصناعتين ) لأبي هلال العسكري ( ت 395 هـ) ، وأطلق عليه ابن وهب في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ، وضياء الدين ابن الأثير ( ت 637 هـ) في كتابه ( المثل السائر ...) اسم البيان ، كما يذكر بدوي طبانة في (علم بيانه) (115) ، لأنهم يرون البيان هو المعبر عن فصيح الكلام ، والحديث الشريف " إنّ من البيان لسحرا" قد يشفع لهم. وأردف عبد الله ابن المعتز بعد الأبواب الخمسة ثلاثة عشر فناً من فنون البلاغة ، دعاها محاسن الكلام وهي : (الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، الهزل الذي يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، لزوم ما لا يلزم، حسن الابتداء.) (116) ، وأضاف إليها قدامة بن جعفر ثلاثة عشر نوعا هي : التصريع، المقابلة ، المساواة، الإيغال، الاستطراف، صحة التقسيم، صحة التفسير، المبالغة -وهي غير اللغو عند قدامة- الإشارة " الإيجاز"، التمثيل، التتميم، الترصيع -وهو أن تكون أجزاء البيت مسجوعة - التوشيح . فوصل البديع في عهد قدامة (ت 337 هـ ) إلى ثلاثين نوعا، ثم تتبع الناس هذه الألوان، فجمع أبو هلال منها في الصناعتين سبعة وثلاثين نوعًا، منها 29 نوعً ذكرها أبو هلال في باب أنواع البديع، ومنها التشبيه الذي ذكره في باب مستقل غير الباب الذي عقده للبديع وإن كان لا يشير إلى أنه من البديع، فيكون الجميع ثلاثين نوعا يضاف إليها سبعة من زياداته ؛ وهي: التشطير، المحاورة، الاستشهاد، المضاعفة "التورية"، التطريز، التلطف، المشتق . ثم جمع ابن رشيق ( ت 463 هـ) من ألوان البديع مثلما جمع أبو هلال وأضاف إليها في (عمدته) خمسة وستين بابًا في بحث الشعر، ) ، و الحقيقة تلاهما شرف الدين الشاشي فبلغ بها أكثر من ذلك، ثم تكلم فيها ابن أبي الأصبع المصري ( م 654 هـ" فأوصلها إلى التسعين في كتابه الجيد "تحرير التحبير في علم البديع"، ثم صنف ابن منقذ كتابه "التفريع في البديع" جمع فيه خمسة وتسعين نوعا، ثم جاء صفي الدين الحلي ( م750هـ) فجمع 140 نوعًا في بديعيته في مدح الرسول التي سماها "الكافية البديعية" وشرحها بنفسه ثم حذا الناس حذوه ونظموا كثيرًا من البديعيات. وأما السكاكي فذكر تسعة وعشرين نوعًا من البديع، وقد ذكر صاحب التلخيص من البديع المعنوي ثلاثين نوعا ومن اللفظي سبعة، وقد أَلَمَّ بتطور البديع في اختصار كثير من الباحثين .(117) وقد ظل مفهوم البديع مفهوما شاملا متسعا لجميع فنون البلاغة المختلفة، شأنه شأن مفهوم البيان، حتى نهاية القرن الخامس الهجري، فصاحبنا ابن المعتز وقدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري والباقلاني وابن رشيق كلهم يستعملون مصطلح البديع للدلالة في الغالب على فنون البلاغة . (118) . ولكن من الجدير ذكره أنّ عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ) ، قد حدد علمي ( المعاني ) و( البيان) في ( دلائل الإعجاز ) و ( أسرار بلاغته) ، وأردفه الزمخشري ( ت 538 هـ ) ، فميز بين العلمين بوضوح في ( كشافه عن حقائق التنزيل ...) ، ومن هنا يعدّهما الدكتور شوقي ضيف في ( تطور وتاريخ بلاغته) ، أنهما نهاية عصر الإبداع البلاغي ، وبعدهما جاء عصر الجمود البلاغي . (119) ، والحق أن الجرجاني أبدع أيما إبداع في ( أسرار بلاغته) ، و( بدائل الإعجاز) ، فوصل القمة فيهما ! ولم تتضح معالم البديع كما نعرفه اليوم أي كمصطلح يدل على مجموعة من الظواهر البلاغية المحددة والتى تفيد تحسين الكلام، إلا مع الخطيب القزويني الذي صاغ تعريفا لعلم البديع في كتاب الإيضاح بناء على ما سطره السكاكي في مفتاح العلوم حينما فرغ من علمي المعاني والبيان فأورد ما سماه (وجوه تحسين الكلام" التي ترجع إلى محسنات لفظية وأخرى معنوية، يقول الخطيب القزويني: " علم البديع وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة، وهذه الوجوه ضربان : ضرب يرجع إلى المعنى ، وضرب يرجع إلى اللفظ. "(120) إذن علم البديع بتسميته السابقة لا بشموليته الواسعة ، أصبح فرعاً من علم البلاغة المعاصرالذي يعني بحسن البيان و قوة تأثيره - كما في المعجم الوسيط - , و تعني الوصول الى المعنى بكلام بليغ ، و يجب فيها مطابقة و مشابهة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ،ومقتضى الحال هو أن يكون الكلام مطابقاً للحالة أو الموقف التي يتحدث فيه . قال الحطيئة : تحنّنْ عليّ هداك المليك *** فان لكل مقام ٍ مقالا ، وقال الجاحظ في ( حيوانه) ، والعسكري في ( صناعتيه) : إن خير الكلام ما كان مطابقاً لمقتضى الحال ، و إن لكل مقام ٍ مقالا (121) وقديماً عرف البلاغة كلّ من العسكري والرماني والآمدي والقزويني والسكاكي ،و الجرجاني والزمخشري وغيرهم ، ونأخذ قول أبي هلال العسكري : " البلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه ، كتمنه في نفسك ، مع صورة مقبوله ، ومعرض حسن ." (122) وينقل الثعالبي في ( منتحله) أبيات البحتري ( ت 284 هـ) عن البلاغة : في نظامٍ من البلاغة مـ ***ا شكَّ امرؤٌ أنه نظام فريدِ ومعانٍ لو فصلتها القوافي **هجَّنت شعر جروَلٍ ولبيدِ حزن مستعمل الكلام اختياراً *** وتجنبنَ ظلمة التعقيدِ وركبنَ اللفظ القريب فأدركـ ***نَ به غاية المراد البعيدِ (123) ويذهب الشيخ بهاء الدين العاملي ( ت 1031 هـ ) في ( أسرار بلاغته) إلى البلاغة تختص بالمعاني، والفصاحة تختص بالألفاظ ، والإيجاز يختص بهما ثم يورد تعريفا لعبد الحميد الكاتب - كاتب مروان الحمار ، آخر خلفاء الأمويين - وقوله ( البلاغة ما فهمته العامة ، ورضيته الخاصة) ، وقول صحار العبدي - خطيب مفوه ، ت 40 هـ - ،إنّ البلاغة : (أنْ لا تُبطيء ، ولا تخطيء) ، أمّا ابن المقفع ، فيراها هي : (التي إذا سمعها الجاهل ، ظنّ أنه يحسن مثلها ، وسميت بلاغة لأن المتكلم يبلغ بها الكثير من الغرض في القليل من المعاني) والفصاحة حدّها : التخلص من التعقيد والتنافر ، وضعف التأليف ، لأنه يقال : تفظ فصيح ، ومعنى بليغ) . كما ترى كل التعاريف التي أوردها الشيخ البهائي قديمة ، لا تنسجم وتطور علم البلاغة ، بل يولي اهتماما خاصاً بالإيجاز ، وما هو إلا جزء من فرع لعلم المعاني ، فيقول عنه : ( والإيجاز هو تقليل اللفظ وتكثير المعنى ، وهو على قسمين ، إيجاز قصر ، وإيجاز حذف . (124) و يتضمن (علم البلاغة) في عصرنا الخاضر : 1 - (علم المعاني) : وهو العلم بما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى الذي يريده المتكلم كي يفهمه السامع بلا خلل وانحراف . 2 - (علم البيان) : وهو العلم بما يحترز به عن التعقيد المعنوي، كي لا يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد . 3 - ( علم البديع) وهو العلم بجهات تحسين الكلام .( 121) ونتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحد ّالممتد ، وعليك الانتظار إلى غد ، وإنّ غداً لناظره قريبُ ...!!
|