سُرّ ما خَطرْ!!(33 , 34)..بقلم/ د. صادق السامرائي |
- 33 – "لا بكيت" الخبز الفرنسي ذو الطعم اللذيذ الذي يحبه الفرنسيون يقول صديقي: إذا إنتقل فرن الخبز من مدينتي سأتبعه نحن الفرنسيون لدينا علاقة خاصة بالخبز ولرائحته تأثير على مزاجنا وسلوكنا إننا نعشق الخبز وعندما تأملت كلامه أدركت صدقه لأن علاقة الفرنسيين بالأرض عجيبة فمزارعهم الشاسعة الخضراء التي يزرعون فيها الحبوب أجمل مزارع الدنيا وأكثرها تنظيما وترتيبا وعناية وخصبا حيث الأبقار بأنواعها ترعى مسرورة مدرارة معطاء وما في الحقول يتزاهى ويتباهى ويعانق أنوار الوجود الخلابة يقول صديقي: إنه قد ولد بين أحضان أمواج بحر المانش ولا يمكنه أن يحيا إلا على إيقاع مصافحتها لسواحل مدينته الصغيرة وأراني شقته فيها وقال: أفتحُ النوافذ لكي يداعب أعماقي موج المانش وأخذني إلى سواحله وصعدنا إلى الضفة الصخرية الحادة التي رسمت الطبيعة بها ما يشبه الفيل الرابض في الماء إن هذا المنظر تجده في الأفلام والدعايات ورسومات الإنطباعيين وكأن أعلامها يجلسون هنا ويرسمون!
وفي مدينتنا الهادئة كان لصخب الماء أنغام تداعب القلوب إذ تحملها النسائم الغربية العذبة فتنعش النائمين فوق السطوح فكنا نتساقى ألحان أمواج النهر وكأنها الترانيم المغردة في أعماقنا وهي تنشد تنويمة الليل الهادئ الجميل الذي تضاحكه النجوم وتتراقص في فضاءاته أطيار المحبة والألفة والإنسجام وتصدح في دروبه أغاني أم كلثوم! - 34 – الأمواج تتفاعل مع الرياح بعنفوان إرادة التيار فتنهض من وجه الماء تريد الإنتشار في الهواء فتصافح وجهي قطراتها وتنثر على رأسي ندى الأعماق وكأنها تريد أن تشاركني الإنغماس في قلب النهر الذي أجالسه كالعاشق الحيران لكنها لا تدري بأنها قد أيقظت الذكريات في خيالي فألهبت روحي وأوقدت وجداني لا تدري بأنها أرجعتني إلى مدينتي التي كانت جميلة زاهية تتغرغر بالمياه والأنوار ويتوطنها التأريخ بكبريائه وشموخ راياته العمرانية العلياء لا تدري بأني وجدت نفسي وكأني أجالس دجلة وأمواج خليجه الجميل وهي تضرب الكتل الصخرية التي كنت أسامرها وأتعلم منها أبجديات التحدي والمطاولة والكبرياء لا تدري بأنها أخذتني بعيدا للوراء الخالي من الدلالات!! فالحاضر بائس والمدينة مشوهة عبثت فيها ثعابين الشرور فلا الكهف كهف ولا النهر نهر ولا الضريح ضريح كلها تبدلت وانمحقت بفعل البشر الذي لا يدرك قيمة المكان ودوره الخلاق في صناعة الوجود الإنساني وتحقيق النفس القادرة على العطاء أيها النهر غادر الجمال مدينتي التي تسر الناظرين فوجدتني تائها أبحث عن جمالها في جميع البلدان وكأن ضوعها قد ساد وانتشر! كانت سر من رأى وأجدها اليوم أوجعت وأبكت مَن رأى ترعرعتُ فيها زاهيا متباهيا وزرتها بعد ربع قرن حزينا دامعا أختنق بالحسرات!
|