الدستور وتنازع السلطات .. الشرعية تقاضي ذاتها !

حين طرحت مسوّدة الدستور الحالي على الاستفتاء العام بتاريخ 15/10/2005، لكي يدلي العراقيين بأصواتهم ويعبروا عن قناعاتهم حيال مستقبل اجتماعهم الوطني ، ويقرروا من ثم مصير بلادهم السياسي . انشطرت مواقفهم وانقسمت آرائهم  – كما هي العادة – إلى فرق متعارضة وتيارات متناقضة وتكتلات متنابذة ، لا توحدهم سوى النظرة المصلحية لما يقدمه من مكاسب ، ولا تجمعهم إلاّ الروابط الفئوية لما يمنحه من امتيازات . وهكذا فقد أبدى القسم الأول قبوله اللامشروط ومحض تأييده المطلق بدون أي تحفظ ، بينما أظهر القسم الثاني اعتراضه التام وأعلن ممانعته الباتة لكل ما ورد فيه جملة وتفصيلا"، في حين انتهج القسم الثالث سبيل الوسطية الانتقائي ، حيث تعاطف مع بعض فقراته ورفض بعضها الآخر . ومنذ أن حازت صيغته الحالية على نصاب (الأغلبية) ، التي كانت واقعة تحت تأثيرات التعصب الاقوامي والاحتقان الطوائفي والتخندق القبائلي ، ليصار تاليا"إلى إقرار بنوده وتثبيت فقراته ووضعها موضع التنفيذ . فقد أضيف ملفه الإشكالي إلى جملة الملفات العالقة والمتعصية ، التي لم تبرح تشكل مصدرا"لاستدرار المشاكل السياسية ، ومحفزا"لإثارة التوترات الاجتماعية . بحيث اعتبر بمثابة (كعب أخيل) القضية العراقية برمتها ، نظرا"لما اشتملت عليه تلك البنود والفقرات من أخطاء مقصودة وثغرات متعمدة ، ستغدو منذ ذلك الحين ولحد الآن حقول ألغام موقوته ،  باستطاعة أية جهة / جماعة إشعال فتيلها وتفجير صاعقها ، متى شاءت وأنى شاءت . ولعل من كبرى المعوقات البنيوية التي رافقت سيرورة المجتمع العراقي وصيرورة دولته الوطنية ، شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمى من المجتمعات العالم الثالث ، افتقاره للتقاليد الدستورية – عرفية أو وضعية – الراسخة ، بحيث تتيح لأطرافه السياسية ومكوناته الاجتماعية ، التمييز ما بين الثوابت الوطنية التي لا خلاف حولها ولا جدال بشأنها (تقديس وحدة الوطن كجغرافيا وتاريخ ، وحرمة المجتمع كهوية وثقافة ، واحترام سلطة الدولة كقانون ومؤسسات ) من  جهة ، وبين نسبية الاختلافات حول المصالح والثروات ، وجانبية الخلافات حول السلطات والامتيازات . وذلك على خلفية تواتر الانقلابات العسكرية وتكرار الانحرافات الثورية ، مما استلزم أن يعيش الشطر الأكبر من تاريخه السياسي والاجتماعي على حدّ سواء ، تحت ظل حكومات لا تستقر لها سلطة إلاّ بالدساتير المؤقتة ، ولا تستطيع أن تحكم إلاّ بقوانين الطوارئ . ومن الأخطاء القاتلة التي ارتكبت بحق الشعب العراقي عشية السقوط ، تكبيل إرادته بدستور صيغ خلف الكواليس وتمت فبركته على عجل ، في زمن شهد ذروة الاستقطابات الطائفية والتمايزات الاثنية والتقاطعات القبلية ، هذا أولا". وأما ثانيا"فانه ليس هناك ما ينص في دساتير دول العالم المركزية والفيدرالية سواء بسواء ، على التفريط بوحدة القرار السياسي أو التنازل عن علوية السلطة المركزية ، باستثناء ما يتعلق بالقضايا الإدارية والشؤون الاقتصادية والأوضاع الثقافية . هذا في حين إن الدستور العراقي الجديد ، اجترح سابقة لم يألف  فقه القانون الدستوري مثيلا"لها من قبل ، والتي ستصبح لاحقا"من أهم أسباب تعثره ومن ثم نقاط الاعتراض عليه. والتي تمثلت بإشراك الأطراف / المحافظات بالأمور السياسية ذات الطابع الاستراتيجي ، والسماح لها بتقاسم صلاحيات صنع واتخاذ القرارات المصيرية . وهكذا فقد تحول الدستور من وثيقة لتوازن السلطات وتحديد الصلاحيات وتوزيع الثروات ، إلى صيغة لمأسسة المحاصصات المذهبية ، وشرعنة التسويات المناطقية ، وتكريس الترضيات القبلية . ومن كونه عامل من عوامل بناء الهوية الوطنية وخلق المواطنية العراقية ، إلى حاضنة لتكاثر الانتماءات الفرعية وتناسل الولاءات الطائفية . وطالما إن الأحزاب السياسية والتنظيمات الدينية والتجمعات العشائرية ، التي استحوذت على حصة الأسد من شطيرة الدولة العراقية ، وفقا"للصيغ الإشكالية التي جاء بها الدستور العتيد ، فإنها ستكون مطالبة – على الدوام - بدفع فاتورة موقفها المتسرع وتصرفها الارتجالي ، حيال تطلع المحافظات الأخرى لممارسة (حقوقها) التي كفلها لها الدستور ، فيما لو شرعت باتخاذ الإجراءات الرامية إلى تشكيل أقاليم مستقلة . وبقدر ما تحاول السلطة المركزية زجر وردع المطالبات التي من هذا القبيل ، لثني عزيمة القوى التي تقف خلف تلك المطالبات ، واعتبارها تجاوزات دستورية تخطت حدود سلطانها ، فان خصومها السياسيين سيلجأون إلى مقاضاتها بذات الحجة التي تتذرع بها ضدهم ، وذلك باحتكامهم إلى نفس مواد الدستور التي منحتهم (الحق) الدستوري للشروع بالاستقلال أو الانفصال إذا ما رغبوا بذلك . والطامة الكبرى أن جميع الأطراف المتخاصمة  حول تصورها لمفهوم توزيع الصلاحيات وتقاسم السلطات التي نص عليه الدستور ، حالما تستثار مشكلة من المشاكل مهما كانت تافهة ، أو تفتعل أزمة من الأزمات مهما كانت بسيطة ، سرعان ما تلجأ – سعيا"وراء تأمين الدعم والتأييد والمؤازر – إلى نقل حلبة منازعاتها ومضمار صراعاتها ، من مستواها السياسي / الفوقي حيث تغلب المشتركات وتسود الكليات ، إلى مستواها الأهلي / التحتي حيث تتقدم الخصوصيات وتتصدر الجزئيات . فاتحين بذلك باب المماحكات السياسية والتناحرات الاجتماعية على مصراعيه ، أمام التكوينات الهامشية والجماعات الفرعية ، التي ينبغي أن تكون قضايا السياسة الساخنة بمنأى عنها وخارج سلطتها . وهو ما يمنحها تفويضا"طوعيا"وعلى بياض ، لتكون بذلك لاعبا"أساسيا"ضمن تشكيلات المجتمع السياسي ، يمتلك مقومات ترجيح مواقف هذا الطرف على حساب ذاك ، وتعديل كفة ميزان هذه الجهة على  حساب تلك ، الأمر الذي يجعل من مزاعم الحكومة وادعاءاتها بخصوص سعيها لإقامة دولة القانون والمؤسسات باطلة ونافلة . وهكذا فان أوار الأزمة الحالية بين مجالس محافظات صلاح الدين والانبار وديالى – وقبلها محافظة البصرة والبقية تأتي - من جهة ، وبين السلطة المركزية / الاتحادية من جهة أخرى ، لا تعدو أن تكون حلقة ضمن سلسة ممتدة من الأزمات المؤجلة والتداعيات اللاحقة ، التي ستواجه الحكومة وتتحدى سلطتها مستقبلا". إذ كلما حاولت من جانبها أن ترسي دعائم هيبتها وتعزز مركزها السيادي ، إزاء السلطات والصلاحيات الممنوحة للحكومات المحلية ، والتي لن تتوانى أو تتردد – هذه الأخيرة إذاك - في إشهار مطاليبها لإقامة أقاليمها الفيدرالية ، حالما تستشعر إن الحكومة المركزية تمارس لعبة الاحتواء للقوى والاستفراد بالسلطة . وهنا لا مفر من وقوع الحكومة بين خيارين أحلاهما مرّ؛ إما أن تذهب شوطا"بعيدا"في إجراءات فرضها إرادتها بالقوة ، والتحول بذلك من حكومة تدعي انتهاج السبيل الديمقراطي في قيادة العملية السياسية ، إلى سلطة تحبذ سلوك العنف وتستمرأ مظاهر الاستبداد ، لنيل مراميها وتحقيق أهدافها . وإما أن تمضي بسياسة طمر الرأس بالرمال ، وغض الطرف عن كل من يشعر إن برأسه صوتا"يروم إسماعه للآخرين ، بحيث ستعطي الانطباع للداني والقاصي بأنها باتت مؤسسة صلصالية ، قابلة لأن تذعن للضغوطات وتستجيب للتهديدات ، وبالتالي الاستحالة – في نظر من يتربص بها - إلى حكومة ضعيفة ، خائفة ، مترددة ، شكلية ، لا حول لها ولا قوة سوى كونها مؤسسة بروتوكولية لا تملك سلطة ولا تصنع قرار . والجدير بالملاحظة في هذا المقام ، هو إن استفحال شأن الحكومات المحلية حيال سلطة المركز (الاتحادية) ، وتكرارها محاولات الانسلاخ الجغرافي والاقتصادي والإداري عن الإقليم الوطني ، ليست بلا سبب وجيه طبعا"، أو كونها مجرد استعراض لقوة الإرادات الذاتية المنفلتة من عقالها – كما قد يفهم البعض أو يعتقد - فضلا"عن حسبانه مجرد اختبار لصدى الاستجابة من لدن المركز . بل انه بالأحرى انعكاس واقعي - أوان شئت - حصيلة طبيعية ، لتردي سمعة الحكومة على مختلف الأصعدة والمستويات ،  فضلا"عن تلكوئها وتباطؤها بمعالجة ملفات الفساد بكل أنواعه والمعتقلين بكل أصنافهم  والخدمات بكل ميادينها . هذا  بالإضافة إلى اعتمادها سياسات الإقصاء والتهميش والإبعاد ، التي لم تني تمارسها ضد بعض القوى والمكونات ، التي أرسى لها الدستور حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، حيث باتت الشكوك والظنون تساورها حول إمكانية الحصول عليها والتمتع بها . وعليه فإذا ما استمرت الحكومة المركزية / الاتحادية ، تعاني الفشل في إثبات كونها حكومة وطنية صادقة وجادة ؛ تسعى لتصحيح أخطائها ، وتقويم ممارساتها ، وتبييض ملفاتها ، وتسوية خلافاتها ، وتخطي أزماتها ، وتوحيد خطاباتها ، وتحسين علاقاتها – لا حظ مهازل الصراعات البينية والاتهامات المتبادلة بين الرئاسات الثلاث – ومن ثم النهوض بواقع المجتمع العراقي المزري ، أسوة بأحوال وأوضاع المجتمعات المجاورة ، فان آفاق المستقبل السياسي والأمني – دع عنك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري – ليس فقط بالنسبة للحكومة (الاتحادية) فحسب ، وإنما للحكومات (المحلية) أيضا"ستكون مظلمة . والحقيقة إن بلوغ هذه الأهداف الجليلة وتحقيق تلك التطلعات المشروعة ، ستغدو ضربا"من التمني العابث والرغبة الصبيانية ، ما لم يتدارك أصحاب الشأن وضعية انحدارهم المتسارع صوب الفناء الذاتي ، وذلك بالتخلي عن نزعات ما قبل المجتمع وتطلعات ما قبل الدولة ، التي لم تزل تحكم مواقف الجميع حيال بعضهم البعض ، وتتحكم بذهنيات الكل إزاء تصورات الذات للآخر . ولعل الخطوة المصيرية التي ينبغي أن يشرعوا بها ، والمبادرة التاريخية التي يتوجب أن يقدموا عليها ، تتمثل بالتغلب على المخاوف المتبادلة والتطهّر من الهواجس المتقابلة ، التي لم تبرح تسمم أجواء العلاقات البينية وتلوث شروط التعايش المشترك . وذلك عبر التحلي بالشجاعة الأخلاقية والإيمان الوطني ، والإقدام على إلغاء أو إعادة صياغة بعض فقرات ومواد وثيقة الدستور الحالي ، لا سيما تلك التي تتمتع بطابع إشكالي في مدلولها ، أو إيحاء مطاطي في تفسيرها ، بحيث يمسي عنوانا"لوحدة  التراب الوطني ورمزا"لتآخي النسيج الاجتماعي ، وإلاّ فان الجميع سيدفع ثمن التعنت في مواقفه والمكابرة في سياساته .