هل معركة يبرود بداية النهاية...؟

 

إن دلالات ما حدث في معركة يبرود تتجاوز النصر العسكري في معركة تقليدية على مسرح العمليات وإن امتدت جغرافيته، فالحديث هنا عن حرب شبه كونية، وهذا كفيل بتحويل نتائج المعارك التكتيكية إلى إنجازات نوعية ترقى إلى المستوى الاستراتيجي الذي يمكن البناء عليه، وبخاصة بعد أن تكشفت معالم ما كان مستوراً في منطقة القلمون بعامة وعاصمتها يبرود بخاصة.

فميدان المواجهة ليس مجرد جغرافيا طبيعية، بل تحصينات هندسية أعدت بشكل مسبق لتمكين من يقاتل على تلك الجغرافيا من البقاء لأشهر عديدة في حالة اشتباك مباشر مع جيش نظامي، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والمعدات إن أصرَّ على الدخول إلى تلك المنطقة واجتياحها، حيث تنتشر الأنفاق وتتفرع إلى اتجاهات متعددة ولمسافات طويلة تمكِّن مَن يستخدمها مِنَ الاختباء والتواري عند الحاجة، والظهور في الوقت الذي يريده من أماكن مختلفة تتحول تلقائياً إلى مرام مثالية لأعمال القنص الآمن، ومقرات القيادة والعمليات تنتشر تحت الأرض بأعماق مختلفة تبلغ عشرات الأمتار، وسلاح الإشارة الذي يعد عصب أي معركة يتجاوز بتقنياته وسائط الاتصال السلكي واللاسلكي المعروفة لدى غالبية الجيوش النظامية، وهذا ما يسميه ''أوباما'' وجوقته بالأسلحة غير الفتاكة التي تتضمن وسائط اتصال وبثاً فضائياً مباشراً، وقدرة تكنولوجية تمكِّن عصابات القتل والإجرام من ترصد وتعقب جميع التحركات، فضلاً عن التنصت والتشويش.

أما حملة السلاح الذين كانوا ينتشرون في يبرود فلهم خصوصية ذاتية لم تعرفها الحروب التقليدية عبر التاريخ العسكري للحروب والصراعات المسلحة، حيث تم جمع القتلة والمجرمين من أصحاب الخبرة في الإرهاب وحرب العصابات من شتى أنحاء المعمورة ممن يحملون فكراً تكفيرياً امتهن ثقافة السواطير وتقطيع الأوصال والتمثيل بالجثث وأكل لحم الضحايا من دون أن يرف لهم جفن.

أما المدربون والمشرفون على جرائم أولئك القتلة فهم نخبة الفكر العسكري والاستخباراتي المتخصص بالإرهاب العالمي العابر للقارات، والأسلحة المستخدمة تشمل جميع أنواع السلاح المعروف بأشكاله المختلفة الخفيف والمتوسط والثقيل والصواريخ الحرارية المتنوعة ومضادات الدروع والطيران وغيرها كثير، وهي متعددة المنشأ وبلدان التصنيع، فمنها الإسرائيلي والأمريكي والأوربي والتركي، وجميعها تم شراؤه بعائدات الغاز والنفط الخليجي المرفق بكل حاجيات المرتزقة بما في ذلك متطلبات ولوازم جهاد النكاح، وتخصيص إمبراطوريات إعلامية لتسويق جرائم العصابات الإرهابية على أنه أعمال بطولية.

فآلاف المسلحين الذين جرى استقدامهم من دول ومناطق عديدة إلى يبرود لضرب استقرار سورية وإسقاط دورها وموقعها، تبخّروا فجأة ولم يعد لهم أي وجود... والشعارات والتحليلات التي صدعوا رؤوسنا بها، باتت حبراً على ورق متطاير وكلاماً فارغاً في الهواء، والمعركة الإستراتيجية التي جرى الاستعداد والتحضير لها طويلا أضحت مجرد جولة كرّ وفرّ هامشية...!

ولكن معركة القلمون وبخاصة يبرود، وضعتنا أمام كم كبير من الأسرار والخفايا التي لا تنتهي في حين وضعت الإعلام المساند والداعم للإرهاب في أسوأ أحواله وأوضاعه، نظراً لافتضاح نواياه القذرة وسقوط مشروعه التخريبي، فكل الأكاذيب والأضاليل التي روّجها مؤخراً لتبرير هزيمة المرتزقة والإرهابيين في يبرود وريفها سقطت تحت أقدام صناديد الجيش العربي السوري، وتلاشت أمام كاميرات الإعلام الموضوعي الباحث عن الحقيقة.‏

لقد كانت معركة يبرود استجابة حقيقية لمطلب وطني وقومي وهو إخلاء مدينة يبرود من رجس مرتزقة وخونة الوطن وقتلة الشعب وسارقي قوته الذين اشترتهم بثمن بخس دول عميلة مثل أمريكا وإسرائيل وقطر والسعودية وتركيا ليدمروا كل شيء جميل في هذا الوطن الشامخ بشموخ أهله والذي تحمل الدفاع نيابة عن قضايا الأمة العربية ضد مشروع الشرق الأوسط الجديد وهو البلد العربي الوحيد الذي قاوم المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي ولد من رحم مشروع ما يسمى بالربيع العربي لتقسيم الوطن العربي،

فمعركة يبرود حقق فيها الجيش العربي السوري أكبر ملحمة في ميدان البطولة العسكرية، وتعتبر معركة فاصلة بين أعداء الأمة وقيمها النبيلة، فهي معركة التاريخ العربي لتحرير مدينة عربية بالرغم من شراستها وتمركز الإرهابيين والخونة داخل مبانيها عندما عبروا الحدود بعد أن تدربوا في الخارج على أنواع كل الأسلحة، على شكل مجموعات من تنظيم القاعدة وما يسمى بالمعارضة، ومافيات لسرقة الدولة وقتل الناس الأبرياء، لكن هناك دروس كثيرة أفرزتها هذه المعركة الباسلة في تحدي الإرهاب ومن وقف مع الإرهاب في دعمه ومساعدته وأهم هذه الدروس.

أولاً: إن من الدروس المستنبطة من معركة يبرود، أن السياقات العسكرية على الأرض التي استخدمت في هذه المعركة اعتمدت على معرفة قوة وضعف العدو حول وداخل المدينة مما سهل على المقاتل العربي السوري تشخيص الأهداف التي استمكنها هذا العدو من الداخل والخارج.

ثانياً: سرعة اندفاع المقاتل السوري نحو أهدافه المرسومة له عسكرياً وتعبوياً ما لا يعطي فرصة للإرهاب أن يناور من مكان إلى مكان آخر، وبذلك اندهش الخبراء العسكريون في إسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا من هذه الظاهرة التكتيكية في حرب تحرير المدن.

ثالثاً: وتأتي هذه الدروس المستنبطة بدرس مهم وخطير، وهو أن معركة يبرود سوف تكون عاملاً في اهتزاز أوكار كل الإرهابيين في المناطق الأخرى، لعدم إمكانية قيادتهم على استخدام سياقات عسكرية جديدة في حرب المدن، كما أن الدول التي ساعدتهم لا تمتلك بدائل أخرى لإنقاذهم من الهزيمة التي تلقاها عملاؤهم في القلمون وعاصمتها يبرود وريف دمشق وحلب وحمص وغيرها...

رابعاً: بالرغم من الأسلحة التي تم تزويد هؤلاء ما يسمى بالمعارضة والإرهابيين من الدول الكبرى وإسرائيل ورغم التدريب عليها في الأردن وقطر واليمن ولبنان وتركيا وليبيا... إلا أنها فشلت أمام ضربات الجيش العربي السوري وبذلك لن يبق لدول العدوان أي أمل في نجاح هذه المؤامرة.

خامساً: أكدت معركة يبرود أن التلاحم بين القادة الميدانيين وجنودهم في الميدان قد خلق وعياً وطنياً وقدرة عالية على تنفيذ المفاهيم العسكرية وأنتج ثقافة عسكرية تربوية، تمّ من خلالها إطاعة الأوامر مما سهل تحقيق النصر الحاسم على العدو وهروبه من ساحة المعركة، وبالتالي فإن معركة يبرود بما تحمله من تضحيات جسام قدمها الجيش العربي السوري من أجل الوطن، إلا أنها واحدة من معارك سورية العربية التي تذكرنا بمعارك تاريخ العرب الخالدة، وهي معركة التحدي والتصدي للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وعرب الجنسية الذين باعوا ضمائرهم للأجنبي.

تقول رسائل يبرود الكثير من الكلام لكل من يهمه الأمر، للشعوب التي آمنت بالزند العربي السوري، أن رهانها لم يكن خاسراً، بل هي من ربح معركة انتظار المعارك الرابحة الأخرى، لقامة الجيش العربي السوري، وقامة سوريا التي لم تغيرها كل معارك الآخرين عليها.

 

ولأولئك الموغلين بالدم السوري الذين نفرح ببقائهم على قيد الحياة كي يروا النصر الكامل الذي راهنا عليه وكسبناه، أنه تغيرت اللعبة، بعدما تغير شكلها، أصبحت المعركة تحت التعبير الاستراتيجي بأن خير الدفاع هو الهجوم، لا بل إن الصبر الذي تمتع به الشعب السوري، أعطى قيادته الحكيمة الوقت الكافي لفتح معاركه على أساس واحد أن لا تراجع عن النصر، وصعبة أكانت الطريق أم سهلة فسننتصر، كما ردد كثيرا ''فيدل كاسترو'' أثناء ثورته المظفرة ويرددها السوريون الصابرون الذين امتحنوا في صبرهم فقالوا استعدادهم له مهما كلف الأمر.

إن سرعة إنجاز الانتصار في يبرود يؤكد جدوى ونجاعة نهج المقاومة وازدياد حضوره وفاعليته على الساحتين الإقليمية والدولية، وهذا يعني تلقائياً انحسار وانكماش دور قوى التآمر والخيانة التي لن تجد واشنطن حرجاً في تركها على قارعة الطريق بعد أن استنفدت تنفيذ الدور المشبوه الذي أوكل لها عبر عقود، ومن حق سورية ومن يقف معها البناء على ما أنجز ومراكمة الانتصارات الكفيلة بتبريد الرؤوس الساخنة، وإرغام أصحاب الأحلام المطاطة للاستيقاظ على دوي الانتصار وتبدد أوهام أطراف العدوان على سورية قادة ومرؤوسين وأدوات تنفيذية مأجورة.‏

فشكرا لكل من نصر الجيش العربي السوري... هي لحظة لا خيار فيها إلا القتال إلى جانبه، ليس من لبنانيين وحدهم، بل المطلوب من كل عربي ومن كل مسلم، لأنه بذاك يدافع عن أمل سوف يخسره مستقبلا إذا ما تسنى للعصابات الإرهابية الوصول إلى أهداف من جنّدوها، وهي غير واصلة إليها مهما تدخل العالم في هذه المعركة المصيرية.