الإمام المهدي ع والانتظار الإيجابي..السيد عصام احميدان الحسني |
مقدمة : جاء في الدعاء المأثور عن أهل البيت ع (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك, اللهم عرفني رسولك فإن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك ، اللهم عرفني حجتك فإن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ، اللهم لا تمتني ميتة جاهلية ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني) . إن معرفة الله مقدمة واجبة لمعرفة الرسول ومعرفة الرسول أيضا مقدمة واجبة لمعرفة الإمام ع ، وطاعة الإمام من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله تماما كما طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله هي طاعة لله عز وجل . إننا ونحن نتحدث اليوم عن موضوع يتعلق بالإمام المهدي ع فإني أتوجه إليكم بملاحظة تقويمية ، فنحن نرى أننا كشيعة أهل البيت ع قد استغرقنا في انتماءاتنا الفكرية لهذا المرجع أو ذاك ، وتحولنا إلى أحزاب وطوائف متصارعة ، وتجاهلنا حقيقة أساسية وهي أن كل هؤلاء العلماء هم في عصر غيبة الإمام المهدي ع أمناء مستحفظين على الإرث الفكري الإسلامي الأصيل ، يجتهدون فيصيبون ويخطئون ، لكن قيادة الكيان الرسالي لكل أتباع أهل البيت ع هي للإمام المهدي ع وهو الذي ينبغي أن يتعلق به المؤمنون أكثر من تعلقهم بالمراجع الكرام الذين لا نبخسهم حقهم ..لكن لا أن يكون ذلك على حساب ولاية صاحب العصر والزمان ، ومن يستغرق في شخصيات المراجع والولاءات يتضاءل لديهم الشعور بحضور القيادة الرسالية الغائبة وبمسؤوليتنا اتجاه تلك القيادة بالتمهيد لها وإعداد الشروط لظهورها المبارك الذي تتطلع له أفئدة الناس أجمعين لينشر قيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية وليعيد للدين بهاءه وصفاءه ويدفع عنه الشبهات وكيد الكائدين . من هذا المنطلق ، فإني أختتم سلسلة دروسي بهذا المسجد المبارك ( مسجد الرحمن ببروكسيل) بمداخلة في موضوع " الإمام المهدي ع والانتظار الإيجابي" آملا أن تكون مداخلة محفزة للإقلاع عن التصورات الخاطئة لموضوع الغيبة والانتظار ، وبداية أصيلة وقوية نحو مرحلة تتوحد فيها كلمة المؤمنين المنتظرين لفرج الله ، وتتكاتف فيه سواعد الرساليين لتغيير الواقع والتمهيد لظهور صاحب العصر والزمان أرواحنا له الفداء . 1- حقيقة غيبة الإمام المهدي ع : إن الروايات والأحاديث الواردة في أمر الإمام المهدي ع وأنه ذلك الإنسان الذي يتصل نسبه بالنبي صلى الله عليه وآله من جهة علي ع وفاطمة ع وأنه يملأ الأرض عدلا ونورا بعدما تملأ جورا وظلما بلغت لدى إخواننا من أهل السنة 400 حديث وبلغت في المجموع بين أهل السنة وشيعة أهل البيت ع أكثر من 6000 رواية ( يراجع في هذا الصدد كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي ) . تعتبر موسوعة المهدي ع للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قده من أفضل ما كتب في قضية الإمام المهدي وأكثرها تفصيلا، وذلك بشهادة السيد الشهيد محمد باقر الصدر رض الذي قدم له الموسوعة قائلا : ( وسأقتصر على هذا الموجز من الأفكار تاركا التوسع فيها وما يرتبط بها من تفاصيل إلى الكتاب القيم الذي أمامنا ، فإننا بين يدي موسوعة جليلة في الإمام المهدي عليه السلام وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحاثة السيد محمد الصدر –حفظه الله تعالى- وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول الإمام المهدي عليه السلام في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام المنتظر من كل جوانبها ، وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يعبر عن الجهود الجليلة التي بذلها المؤلف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة ..وإني لأحس بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ وما تعبر عنه من فضل ونباهة وألمعية وأسأل المولى سبحانه وتعالى أن يقر عيني به ويريني فيه علما من أعلام الدين والحمد لله رب العالمين ..) ( مقتطف من مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر رض لموسوعة المهدي وهي المقدمة التي طبعت مستقلة باسم : بحث حول المهدي ع ) . إننا بالعودة لموسوعة المهدي ع للسيد محمد الصدر رض نجده قد أبدع في عرض كافة الاحتمالات الممكن تصورها في قضية غيبة الإمام ع وناقشها بطريقة علمية فطرح منها فرضيتي " خفاء الشخص وخفاء العنوان " و " ظهور الشخص وظهور العنوان " فكانت المحصلة هي انحصار الفرضيات في أطروحتين وهما : " ظهور الشخص وخفاء العنوان " و " خفاء الشخص وظهور العنوان " . لقد عبرت عن هذين التصورين لمسألة الانتظار من خلال خاطرة أسميتها ب " حوارية علوية في أهل البيت ع " وهي حوار متخيل مع أمير المؤمنين ع حول قضايا عقائدية ، تعرضت فيها ضمن القضايا العقائدية إلى موضوع "غيبة الإمام المهدي ع " فجاء فيها : ( ... فقلت : أبا حسن ، فممّا علّمك الله فعلّمني ، ومن فضل الله عليك فتفضّل به عليّ ، قد بلغت من قصدك الغاية ، وإنك للهدى خير علم وآية" قال علي ع : " سل كلّ ما بدى لك ، فأنا من قلت في الزمن الذي هلك : سلوني قبل أن تفقدوني ، فابتلاني الله بشيعتي ، وبهم عدوّي رماني ، فسألوا عن كلّ أمر عقيم ، وتركوا غاية العلم وكلّ عظيم ، فسل أخ الإسلام وناشد الإيمان ، يا من قصر عن نصرة ولدي في آخر الزمان ، فكان أن غاب عن العيان ، وظهر أمره لذوي الأذهان ، فأنتم والله الحوّل القلّب ، نظرتم فما نظرتم ، وفكّرتم فما تذكّرتم ، رأيتم إمامكم هو الغائب ، وأنتم عن هذا الأمر والله الغيّبُ ، أسميتموه "المنتظَرُ" ، ولعمري أنّه هو المُنتظِرُ ، لعودة رشدكم المنتظَرُ . قلت : " نطقتَ فصدقتَ ، وقلتَ فأحكمتَ ، فعذرا سيدي ، وعذرا لابنك المهدي، فإنّي لنصركم لفقير ، وبالذّنب لجدير ، وإنّ القوم استضعفوني ، فلا تأخذ بلحيتي ، واعذر قلّة حيلتي ، وهواني على أمّتي ، فيا علي زدني زدني .. ) . إنني في تلك الفقرة من الحوارية العلوية حول أهل البيت ع كنت أشير إلى نظريتين في قضية غيبة الإمام المهدي ع ، وقد استعرضهما السيد الشهيد محمد الصدر رض في موسوعته بالكثير من التفصيل والتدقيق العلمي ، وهو ما لا يسمح المقام لبسطها بتمامها في هذا المقام الكريم الذي لا يتسع ذلك ..لكن بشكل عام نذكر باختصار بأن هناك أطروحتين في تفسير غيبة الإمام ع : الأطروحة الأولى: ظهور الشخص وخفاء العنوان، أي أنه موجود بيننا نراه ويرانا ولكننا لا نعرفه، ويؤيد هذه الأطروحة جملة من الروايات منها: ما نقله الشيخ الصدوق في إكمال الدين عن محمد بن عثمان العمري (السفير الثاني): (والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)). وما رواه النعمان في الغيبة بالسند عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((صاحب هذا الأمر يتردد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتى يأذن الله له أن يعرفهم نفسه، كما أذن ليوسف حتى قال له إخوته: (( قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ )) (يوسف:90). الأطروحة الثانية: خفاء الشخص وظهور العنوان، أي أنه غائب الجسد غير منظور ولا مرئي وإن كان عنوانه ظاهر، ويؤيد هذه الأطروحة جملة من الروايات منها ما ذكره الميرزا النوري في مستدرك الوسائل: (عن الإمام الرضا (عليه السلام): ((القائم المهدي (عليه السلام) ابن ابني الحسن، لا يُرى جسمه ولا يسمى باسمه بعد غيبته أحد حتى يراه ويعلن باسمه فليسمه كل الخلق)) ، لكن الأطروحة المشهورة والأقرب للصواب هي الأطروحة الأولى أي " ظهور الشخص وخفاء العنوان " ، وهي الأطروحة الأكثر معقولية والأكثر تحريكا للهمم ، حيث يستشعر الناس وجود الإمام ع بينهم ويتطلعون لليوم الموعود الذي يعلن فيه عن عنوانه ، 2- مسؤولية الانتظار الإيجابي : في ظل الحديث عن إمام العصر والزمان عج بوصفه الإمام المنتظر، والوعد الموعود، ونصر الله للمؤمنين، ومن يملأ الأرض عدلا بعدما تكون قد امتلأت ظلما وجورا، نتساءل عن سر غيبة الإمام (عج)، مع العلم أننا عندما نتحدث هنا عن الغيبة فنحن لا نقصد الغيبة الذاتية والشخصية، بل نقصد تلك الغيبة العنوانية، أي أن الإمام لا يغيب بشخصه بل بعنوانه، وهو الأقرب للصواب تأكيدا وتصديقا للروايات الكثيرة التي أشارت إلى أن الإمام ع يحضر الحج كل سنة، مما يفترض فيه أنه إنما يخفي على الناس صفته وعنوانه كإمام من أئمة أهل البيت ع. إن الإمام لا يغيب خوفا على نفسه، فليس الخوف من شيم آل بيت النبوة، وإنما نظرا للدور الرسالي الكبير الذي يضطلع به الإمام، وهو دور استثنائي بوصفه الإمام الأخير من أئمة أهل البيت ع، وعلى عاتقه تقع مسؤولية إحداث تحول نوعي في مسار حركة التاريخ والوعي الإنساني ككل، بناء على ذلك فالإمام غاب حرصا على استكمال الأمة شروط نهضتها الحضارية، كي لا يتم تضييع الفرصة التاريخية لإحداث التغيير الرسالي المطلوب. ومن هذا المنطلق، تكون الصورة الحقيقية هي أن الأمة هي المنتظرة، وأن ظهور الإمام (ع) متوقف على نهوض الأمة، وكل تأخير في ظهور قائم آل محمد عج يعني بالضرورة أن الأمة تأخرت في ظهورها بمظهر الأمة الرشيدة، أو على الأقل أن الطليعة المؤمنة لم يكتمل استعدادها الفكري والنفسي والحركي لظهور القيادة الربانية، والتي ستتوج ذلك الاستعداد من خلال تلاحم القيادة بالطليعة المؤمنة، أي تلاحم الإمام بأنصاره. إننا يجب أن نشعر أنفسنا وجمهور المؤمنين أننا من يتحمل مسؤولية الغيبة وطول الانتظار، كي يتحول الشعور بالذنب إلى محفز كبير ومحرض على استنفار الجهود والطاقات وتعبئتها لأجل النهوض بواقع الطليعة وقواعد الأمة لتكون في مستوى التطلعات، وبحجم الدور المنوط بها في احتضان القيادة المهدوية. إن تأسيس ثقافة الانتظار على أساس أن الأمة تنتظر الإمام، وأن الغيبة مرتبطة بظروف شخصية للإمام هو أمر خاطئ يؤسس لعلاقة دور ينتظر فيها الإمامة الأمة، وتنتظر فيها الأمة الإمام، ليتم بذلك تعطيل حركة التغيير والتمهيد، وليتم إفراغ فلسفة الغيبة والانتظار من محتواها الرسالي الأصيل. وبناء على التصور الذي قدمناه عن المعنى الحقيقي للغيبة والانتظار، تكون الثقافة المهدوية أهم ركيزة في برنامج تحفيز الذات وبناء القدرات الفردية والجماعية، في سبيل بلوغ التغيير الرسالي المطلوب إحداثه، كما ينبغي التأكيد على كون الإمام عج هو قيادة ربانية لكل العالم الإسلامي، وحيث ألا حيثية وخصوصية في صفات الإمام المهدي ع عند إخواننا من أهل السنة سوى ما يتصل بوظيفته في نشر قيم الحق والعدل في زمن الجور والظلم، وأن اسمه «محمد» وهو من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، فليكن برنامج الإعداد لهذا الإمام هو برنامج كل المسلمين، ولو اختلفنا في حيثية اسم والده، وأنه ولد أم سيولد.. إن الخط العام الذي يمكن الالتقاء حوله هو أن على المسلمين الإعداد لظهور قائم آل محمد الذي يملأ الأرض عدلا بعدما تملأ جورا وظلما، وبالتالي فالثقافة المهدوية لا يمكن تصويرها كرمز طائفي بل هي عنوان إسلامي عريض، يشكل أمل الأمة الإسلامية في غد أفضل يصبح فيه الإسلام في قلب الحياة لا على هامشها. وأختم مداخلتي هذه بدعاء أرجو أن نردده بشكل جماعي (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظ وقائدًا وناصر و دليلاً و عينا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
|