العمل .. ومرض الإحتراق النفسي

 

أسابيع عديدة ومنذ زمن طويل لم اصادف أو أرى استاذة كانت تأتي إلى القسم لإلقاء المحاضرات على الطلاب ، يبدو أنها كانت في اجازة مرضية منذ وقت بعيد، أردت الأستفسار عن صحتها من زملائي فأعلموني همسا أو كما يقال بسرية إنها مصابة بالكآبة أو ما يسمى بمرض الأحتراق النفسي المشهورعالميا بـ burn out مرض يصاب به الناس من جراء الضغوطات النفسية في أرجاء المعمورة وهى من إفرازات العمل المتواصل ومشكلاته .

قلت مع نفسي إنها ضحية أخرى من ضحايا العمل المضني والمجهد ، ففي الآونة الأخيرة تردد إلى سمعي اسم زميل آخرأصيب بالداء نفسه وهو الآن يعيش فترة النقاهة، أسم المرض لم أكن أعرفه الا قبل عدة سنوات حيث كنت أجهله تماما، على الرغم من أن التأريخ يدل على أن هذا المرض المتعلق بالعمل تعود جذوره الى الشرق الأوسط ولكن المجتمعات الرأسمالية تصاب به في عصرنا هذا بشكل ملفت ومتزايد.

الأستاذة المعنية كان عليها ضغط شديد أثناء ممارسة مهنتها، ويبدو أيضا أن زملاءها في العمل كانوا يكيدون لها بشتى الوسائل ويحاولون منعها أن تصبح متمييزة عليهم وبالتالي أن تحظى بمرتب جيد، واسباب اخرى قد يكون الحسد إحداها ، لان المنافسة هنا شديدة جدا في عالم المهنة ، ويجب العمل كثيرا للحصول على ترقية لتحظى برضى مسؤولك أو صاحب العمل، الأمر سيان في القطاع الخاص والقطاع العام.

وعلى الرغم من أن فرنسا هي من الدول النادرة التي تعطي العناية لموظفيها في جميع المجالات أهمية كبيرة، وخصوصا من خلال اقرارها لطب العمل الذي يعتبر اختصاصا اخر في هذه المهنة الهدف منه معرفة الحالة الصحية للعاملين ومتابعتهم منذ دخولهم مكان العمل لتأثيرها على العملية الإنتاجية، وتفادياً للحوادث المهنية التي ينتج معظمها عن تردي الوضع الصحي للعمال. ففي بداية أي تعيين يتم فحص الموظف من قبل طبيب الدائرة أوالمؤسسة ولدى ترقيته أيضا لمعرفة ان كان الموظف يتمتع بقدرات صحية ونفسية تؤهله للعمل.

أمراض العمل هي قديمة جدا ومن أوائل من وصفه وعالجه هم المصريون منذ العام 2500 قبل الميلاد حيث تم العثورفي مصرعلى أوراق البردي من العهد الفرعوني التي تصف الالام الحادة في ظهر العاملين جراء بناء الأهرامات وقتها، ومن ثم في العام 450 قبل الميلاد لاحظ ابقراط أبو الطب، أن هنالك أمراض مثل الربو تصيب الخياطين والصيادين والعاملين في المعادن أكثر من غيرهم، ويبدو ان الطب وقتها لم يكن يعطي أهمية للعامل النفسي، فمرض الأحتراق النفسي هو مرض يبدأ بهزيمة النفس قبل الجسد. مرض الاحتراق النفسي هو مرض معاصر جدا يؤثر على 10٪ من العاملين وهو شكل من أشكال الارهاق الجسدي و النفسي الناجم عن التوتر والقلق وهوالان يعتبرمن الامراض العقلية في مهنة الطب، يتميز بالتعب واضطراب في النوم والهضم وفقدان الوزن والميل الى الانتحار.

وفعلا هذا ما يحدث إذ غالبا ما نسمع أن موظفا انتحر في شركة ما وكتب رسالة تنص على أن الشركة أو المؤسسة هي السبب في انتحاره، أمر ليس بالغريب بل ومعتاد عليه في مجتمعات النظم الرأسمالية. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات تحاول ان تجعل مكان العمل مريحا واعطاء منتسبيها بعض الامتيازات . ففي الآونة الأخيرة تم اقتراح أن يقوم العاملون بأخذ قيلولة في الشركة بعد منتصف النهارحرصا على صحتهم وانتاجهم.

مرض الإحتراق النفسي يتحدثون عنه كثيرا في هذه الأيام، كونه ليس معترف به كمرض يصيب العمال أوالموظفين، لذا تحاول النقابات المفاوضة مع الحكومة اقرار قانون خاص يعترف بهذا المرض بقولهم " العامل مهما كان طبيعة عمله، هو انسان من دم ولحم وروح وليس روبوتا..وهذا يعني أن رب العمل يجب أن يقبل أن هذا الإنسان له حدوده في الطاقة والقدرة وامكانيات جسدية ونفسية محددة .."