منذ ان حشرتها ماكنة التهريج الاعلامية للدكتاتورية في غير محلها صارت كلمة “الغوغاء” تستفز الذاكرة الشعبية واللغوية، لانهم الصقوها غُلا وصفا مغشوشا لابطال انتفاضة آذار، فيما هي شيء آخر في المعنى والدلالة، بل انها اقرب لموصوف ازلام الدكتاتور نفسه الذين ملأوا الفضاء بالتزوير والغش لكي يتوافق التفسير مع المصلحة، وقد توارثها البعض، سوية مع موروثات بغيضة اخرى. يظهر الغوغاء في الانعطافات والاحداث والفواجع، كما يظهرون، اكثر من ذلك، في ظروف السلم والاستقرار، وعلى حواشي الساسة والطامحين والمتآمرين: يجلسون على الارصفة بانتظار من يصفقون له، ومن يستقوون به، ومن يسعون اليه.. ولا يتورعون عن الايذاء أو المنكر أو العصيان أو شهادة زور، ولا عن معارضة محسوبة بالامتيازات، أو عن ولاء محسوب بالربح. والغوغاء نرصدهم في الثقافة مثلما في السياسة، فهم بارعون في المديح متطرفون في الهجاء. يزنون الموقف بالتكسب والمصلحة، ويبيعون (الضمير) بالمفرق والجملة. حاضرون في الصخب والفوضي، ومتصدرون في الولائم والفضائيات. يغيرون على هذا من غير دالة، ويدافعون عن ذاك من دون حق. أصواتهم أعلى الاصوات، وشتائمهم أرخص الشتائم. يتقدمون حيثما يكون التقدم مضمونا بالسلامة، وينسحبون حيثما يكون الانسحاب مكفولا بالنجاة: في كتاب (العزلة) لأبي سليمان البستي مقاربة عن (الغوغاء) يقول: عن ابي عاصم النبيل ان رجلا أتاه، فقال له: إن امرأتي قالت لي “يا غوغاء”. فقلت لها: إن كنتُ غوغاء فأنت طالق ثلاثا، فما العمل؟ فسأله ابو عاصم النبيل: ـ هل انت ممن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك؟ قال: (لا). قال النبيل: هل انت ممن يحضرون يوم يعرض الحاكم الظالم أهل السجون فيقولون فلان أجلد من فلان؟(أي ينافقون) قال الرجل: لا. قال ابو عاصم: هل انت الرجل الذي إذا خرج الحاكم الظالم يوم الجمعة جلست له على ظهر الطريق حتى يمر، ثم تقيم مكانك حتى يصلي وينصرف؟ قال الرجل: لا. قال ابو عاصم النبيل للرجل: لستَ من الغوغاء، إنما الغوغاء من يفعل هذا. لنبحث عن الغوغاء بين الذين يصفقون للزعامة لقاء أجر او جاه او منصب، والذين يجلسون على قارعة الطريق ينتظرون مرور أحدهم ليوغلوا صدره ضد الخصوم ، والذين يحضرون حفلات المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك.. وتبادل الهدايا باكياس الزبالة.
“إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمر به الوحول” المتنبي
|