يا حلاوة الوطن

 

أول حفلة تعذيب حضرتها في حياتي كانت في مديرية أمن ذي قار. جاؤوا بي من النجف إلى الناصرية معصوب العينين، مكتوف اليدين ومسجّى تحت أقدام عناصر الأمن. ضابط المأمورية كان يدعى الرائد نزار، عبث في مكتبتي وأغراض بيتي وأمر بتكتيفي وسحلي أمام أنظار زوجتي وأطفالي. ما كنت لأنسى تلك السَحلة ولا تلك المهانة واستنشاق التراب العالق ببساطيلهم لولا حفلة التعذيب التي أعدّها لي النقيب ماجد.

كان معي في القضية ثلاثة أصدقاء سحلوا أيضاً من بين عوائلهم لوشايةٍ أدلى بها ديّوث. حين أُدخل الأوّلانِ رُميت أنا والرابع في ممر رطب تبيّن فيما بعد أنه مجرى مرحاض طافح. كان أنفي معبئاً برائحة البول والمجاري، وأذني يصمّها صريخ زملائي المعلّقين في غرفة التحقيق، بينما عقلي كان مشغولاً بصورة ابنتي نور، كانت الوحيدة لم تبكِ وهي ترى أباها مسحولاً من ياقته في الممرّ بين المطبخ وباب الحوش.

بعد ساعتين من المهانة والانتظار فوق الخراء نودي عليّ إلى غرفة التحقيق، سُئلت سؤالاً واحداً لم أكمل إجابته، ما علاقتك بفلان؟ هممت بالجواب: ما اعر.... فتحوّلت إلى طبل عيدٍ يضربه كل من حوله. بعدها علّقت من خلاف على (الگنّارة) وهي لمن لا يعرفها حديدة معقوفة مثبتة في الحائط أعلى باب الغرفة، تربط اليدان إلى الخلف وتعلق بها، فيتدلّى الجسد في الهواء ويباشر الجلّاد الضرب بعدما ينتهي من ربط سلك كهربائي بالخصيتين.

الآن تصوروا الحالة ثم أجيبوني: شخصٌ بلا تهمة يتدلّى شبه ميّت في الهواء، الكهرباء تسري في أحشائه، والكل يتعاون على جَلده، مع كمٍ لا يحصى من أقذع الشتائم والسباب، يُرمى بعدها في محجرٍ مظلم لا يتجاوز الأربعة أمتار مربعة ليمكث فيه حتى يقرر قوّادٌ مصيره، ثم يخرج ليجد نفسه صفراً على الشمال في العراق الجديد، فيضطر للإنزواء في بيته لولا (طلقات الموامنة) التي اضطرته للفرار من وطنه ورمته في أبعد نقطة من القطب الشمالي. شخصٌ كهذا بماذا يجيب عن سؤال ابنته الصغيرة: بابا بابا، العراق حلو؟!