رفيق الموت. |
طارت مجموعة من الحمائم وهي ترفرف فزعا بأجنحتها الرمادية المزرقة ..عندما دوى صوت الأطلاقة..ذلك الصوت المهيب الذي يمزق سكون الصمت وينتشر في الارجاء محملا برائحة الموت.... عادت تلك الصورة إلى الارتسام في مخيلته...صبي اسمر ناحل الجسد...بدشداشة بازة مقلمة وهو يركض حافي القدمين مطاردا صغار القطط ومستهدفا إياها بمصيادته العتيدة....كلما دوى صوت الاطلاقة ..تناهى الى سمعه ذلك المواء الشبيه بالأنين الذي تطلقه الهريرات قبيل موتها او استسلامها للطفل القناص ....حتى تصور لبرهة ان صوت الأطلاقة هو "مياوو" طويلة..... لطالما تساءل في مخيلته النضرة عن معنى إسمه..ولكنه علم من اعمامه إن هذا الأسم لايوهب إلا لكل بطل جسور....فكبر في نفسه اعتزازه بالفخر...وتنامت لديه تلك الرغبة الغريبة في التلاعب بالحياة... كان يلذ له متابعة اعين المخلوقات الضعيفة وهو يسلبها حياتها....القطط...الجراء....بل حتى الضفادع التي يتصور البعض إنها بدون دماء ولا إحساس..كانت تناظره بهلع وتذرف الدمع أحيانا وهي تستسلم لحجارته التي لاتخطئ الهدف أبدا..... فيلم طفولته الاعتيادية ذاك اصبح من الطقوس المألوفة التي يعاد مشاهدتها بطريقة الفلاش باك كلما إنطلقت تلك الرصاصة.....وأنجزت المهمة.... كان يمكن ان يكون "جاسم" شخصا اعتياديا يجلس الى جوارك في الباص او يلاعبك الدومينو في إحدى مقاهي بغداد....ولكنه لم يكن كذلك.. تابع طريقه في ازقة بغداد التي يلفها الظلام..متابطا حقيبته وحفنة من ذكرياته.... طريق موحش....مفعم برائحة المجهول المثيرة للقلق...ولكنه لم يكن خائفا..... مم يخاف الناس.....من الموت....حسنا ..."جاسم" لايخاف من الموت فهو يوزع تذاكره المجانية على كل من وقع عليه الأختيار....لم يعد عزرائيل غريبا عن جاسم فهو وكيله الذي يساعده في قبض ارواح المجرمين والأبرياء على السواء.... اين كانت نقطة بدايتي...؟ تساءل جاسم بذهول...."متى ابتدأت فعلا بممارسة هذه المهنة.....لا اتذكر مطلقا"..... كانت الحرب العراقية الايرانية هي الحلم الذي امكن جاسم من ان يمتلك ولأول مرة بندقية.... جرى تجنيده كجندي مكلف في لواء العمارة.. في بداية صيف1985....وقد كانت الحرب في اوجها.... تذكر ....كيف داعبت اصابعه ذلك الزناد البارد...كما يلتمس عاشق خصلات شعر محبوبته للمرة الاولى.....احس بملمس الزناد الناعم...الصلب....... ترى من الذي إخترع البندقية..... وهل نال جائزة على إختراعه..... ظهيرة يوم كانوني مشمس....كان جاسم يستلقي بعد تناول الغداء على دكة منزله متأملا المارة ومستمتعا بالشمس....عندما لاح امامه ظل طويل لأحد أعمامه الذي حجب بدشداشته الطويلة وغترته ضوء الشمس عنه...... اخبره عن مشكلة كبيرة حول ارض زراعية يمتلكها ويبدو ان الحل الاوحد كان يكمن في اغتيال الخصم و لايوجد سوى جاسم للقيام بالعمل. وتوالت المهمات المماثلة بدافع مساعدة الاقارب اولا ثم كمصدر للعيش ثانيا.... لم يعرف فترة اكثر رخاءا من السبع سنوات الماضية في حياته حيث اصبح القتل بسيطا كشرب الماء واضحى الموت هو الحل الاسهل لكل المشاكل العالقة..... كان الضحايا والزبائن يتشابهون فهم ليسوا اشرارا واخيارا بل مجرد افرادا عاديين اختلفوا في وجهات النظر..... تمكن جاسم من ان يمتلك ثلاثة منازل بدل الواحد الايجار الذي كان يقطنه...كما اتخمت البنوك بأرصدته ولكن.."اما أن الاوان لكي يتوقف عن القتل"......... بعد كل عملية ناجحة كان يعود الى منزله معتصر الفؤاد ويتطلع بأسى في عيون ابناءه....وقد يصاب بالغثيان كلما وضعت زوجته مائدة الطعام.... كان يتصور ان عيون ضحاياه..واحشاءهم تحتل الصحون على مائدته...... في تلك الليلة.....لم يستطع ان ينسى وجهها...كانت تلك الضحية الانثى الاولى ....ظلت عيناها تلاحقه في منامه وهي تنظر اليه بهلع...مشوب بالكثير من التساؤلات..."لماذا تقتل معلمة بعد مغادرتها لمنزل شقيقتها"...لم يعتد الاسئلة...كان ينفذ وحسب ولكن تلك النظرات المندهشة لهذه المرأة الاربعينية اجبرته على التأمل... ربما زوج غيور.....تلميذ فاشل... او غريمة عاشقة.....لايدري....فلم يكن يلتقي بشكل مباشر مع الزبائن.....كان ينفذ وحسب... رافقه شعور الغثيان ذاك في يومه وليلته واحس بأنه يجتر سنين حياته بندم... "هذا يكفي".....قال في نفسه.. "سأبحث منذ الغد عن عمل اخر ولن اعدم السبيل فأنا امتلك رأس المال"...... مضت اشهر....ولم يعاود عمله القديم ولكن نوبات غثيانه صارت اسوأ واخذ يستبد به هزال ونحول غريب ومثير لتساؤل كل من يراه.... لم يكن مريضا......ولكنه اشتاق فقط ....لنشوة الموت..... ليس بإمكانه الابتعاد عن هواية طفولته....ومهنة شبابه....ببساطة لايمكنه العيش بعيدا عنها.... قرر العودة الى لقاء الموت...والامتزاج به.... ....عاد الى تنسم تلك الرائحة.....رائحة الجسد البشري...حين تغادره الروح...كانت تصدر من تلك الاجساد رائحة غريبة...لايدركها ولايشمها سواه...تمنحه شعور لذيذ بأنه مايزال حيا...مثلما يشعر المعافى بقيمة الصحة عندما يرى مريضا ... عادت اليه نشواه...وعاد اليه احساسه بالحياة...بعد ان استلم عمله الجديد.....في مغسل الموتى... "لايمكنني الابتعاد عن الموت...فأنا أعشقه " فكر جاسم...... |