تكشف ظاهرة التحالفات الانتخابية عن نوع من التوافق السياسي على مشتركات يعمل على تحقيقها المتحالفون، وهي تمثل قواسم مشتركة لافكار وبرامج واتجاهات، متقاربة في الاصل، وفي التوجه العام للمرحلة التي تمر بها البلاد لتعبئة اوسع ما يمكن من القوى التصويتية للوصول الى قبة البرلمان بعدد مناسب من المقاعد، ولمنع القوى الاخرى صاحبة التوجهات الاخرى من الاستفراد بارادة السلطة التشريعية، ولأن اطراف التحالفات لايمكنها، منفردة، لاتحقيق برامجها ولا احتلال مكانة مؤثرة في البرلمان. وايا من التسميات التي تُطلق على هذه التفاهمات، فانها لاتخرج عن مفهوم التوافق بين قوى سياسية على مفردات عمل لمرحلة محددة، والذي لايجمعه جامع بالمحاصصة التي تعني شيئا آخر يتضمن تحويل المناصب والامتيازات ومرافق الدولة الى حصص يجري تحديد حجومها على وفق حجوم الكتل السياسية المتحالفة في مجلس النواب، وهذا ما حصل. لنتذكر بان مبدأ التوافق كان منبوذا ومرفوضا في الادب السياسي الثوري، اليساري والقومي على وجه خاص، مثله مثل مبادئ الاصلاح والوسطية والمساومة والتهدئة والاعتدال والحوار وانصاف الحلول والتفاوض والمراجعة، وجميعها كانت تعني، (لدينا، نحن ورثة الفكر الثوري) خيانة للنضال ودماء الشهداء، وإنكار لتضحيات الاجيال، وكان لبعض وجوه هذا الرفض -طبعا- ما يبرره في ظروف الاستقطاب بين النظم الفكرية السائدة لما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما كانت السياسات والافكار الاخرى تتمترس، بالمقابل، في المفاهيم المتطرفة والعدوانية والتجييش والمخاشنة وتنأى هي الاخرى عن خيار التوافق. وفي غضون ثلاثة عقود من السنين انتقل ازدراء التوافق، شيئا فشيئا، الى التيار الاسلامي ‘الجهادي” المسلح الذي انتشر واندفع الى واجهة الاحداث بمقاسات اسطورية، فاعاد انتاج الغلو والتطرف ونبذ الاعتدال والوسطية والاصلاح في خطاب ديني مغلق، عدواني تكفيري. ماضوي. طائفي. وفي ممارسات اتسمت بالدموية، سقط خلالها ملايين المدنيين الابرياء، هذا مقابل استمرار بعض المنظومات الفكرية والسياسية، اليسارية والقومية، على رفض مبدأ التوافق والحلول الوسط والتحالف على اساس المشتركات ما ينتمي الى ثقافة الحرب الباردة. التوافق، بوجيز العبارة، ابن شرعي لعصر التحولات، لكن المشكلة الاولى تتمثل في انه قد يصبح ابنا عاقا حين يُختزل الى صفقات مشبوهة تهدف الى تكريس الدكتاتوريات والمظالم، وقد يخرج هنا من التعريف المدرسي للتوافق الى معنى آخر اقرب الى التآمر، اما المشكلة الثانية، فهي لجوء بعض القوى والزعامات الى خيار التوافق مع اطراف اخرى لتحسين فرص الوصول الى السلطة، أو الامساك بها، ثم، بعد ان يتم لها ذلك، تستدير الى شركائها لتتخلص منهم.
“ تذكروا ان رجال الاطفاء لايكافحون النيران بالنار” يوثانت
|