موسم الولاءات المتقلبة

موسم الانتخابات مثل اي موسم يحدث فيه من الانواء والاحداث ما لا يحدث في غيره، وهو بالمعنى التاريخي زمن عارض، يحلّ ويتكرر في نظام من المتواليات التي تدخل في التقاويم، وقد يداهم الموسم الزمن في غير استئذان او من غير اوان، فلم تلتقطها عيون الرصد ولم تتوقعها اجهزة المحاذير، وفي الغالب تعبر المواسم بعد ان تترك اثارا مؤسفة مثل مواسم البراكين او العواصف او الغبار، أو تترك بصمات نافعة وعميقة لا تنسى، لكن الموسم الذي نعنيه (الانتخابات) يقع تحت الانضباط، إذ جرى تعيين موعده وسياقاته واستحقاقاته، وشاءت “امراض” الانتخابات السابقة ان تتكرر امامنا هذه الايام بالصوت والصورة، ومن ابرزها تهافت وانحطاط وتغييرالولاءات وبيعها والمتاجرة بها، حتى يقال في تعليقات كثيرة انه موسم الترزق.
الولاء للزعامات والخيارات السياسية لا غبار عليها، فالكثير منا يوالي زعيما او خيارا، يجد في ذاك ملهما وراجحا، ويجد في هذا تعبيرا عن مصالحه واشواقه ومستقبله وقد يفرض الولاء على صاحبه، إن كان اخلاقيا وقائما على القناعة ومثل الحياة الايجابية، ان يضحي بحياته عن طيب خاطر من أجل الوليّ والقضية التي يتبناها، وصفحات التاريخ مليئة باسماء موالين راسخين سقطوا وراء مصلحين، او ثوريين، او مكافحين من اجل الحرية، فكانوا شهداء تقتفي الاجيال بمأثرتهم، تمييزا عن اولئك حولوا ولاءاتهم وضمائرهم الى سلعة وخرقة مسح.
في التاريخ القديم ومروياته (لنبتعد عما يجري الآن) ثمة الكثير من الوقائع عن تقلب الولاءات بحسب الظروف وعلى ايقاع انقلاب الاحوال، وبخاصة، في بيئات وحقب شهدت اضطرابات وحروب، فقد اورد ابو العباس المبرد في كتاب"الكامل في الادب واللغة" حكاية عن مأزق الولاء في خلال حروب الدولة الاموية مع المنشقين عليها، تفيد ان المهلب بن ابي صفرة كان يقود جيش مصعب بن الزبير ضد الخوارج، فحدث مقتل مصعب لصالح عبدالملك بن مروان، لكن الخوارج علموا بالوفاة قبل اصحاب المهلب، فالتقى الطرفان على مشارف ساحة الوغى، فنادى الخوارج خصومهم: ما تقولون في اميركم الزبير؟ فردوا بالقول انه "إمام هدى" وسألوهم: وما تقولون بعبدالملك (عدوّه)؟ فردوا قائلين انه "ضال مضلل". ثم مرّ يومان، وبلغ مقتل مصعب اصحاب المهلب واستتباب الامر الى عبدالملك، فناداهم الخوارج مرة اخرى: ما تقولون في مصعب؟ "فامسكوا عن الجواب" فقالوا لهم: فما تقولون عن عبدالملك؟ فردوا انه "إمام هدى" فردّ عليهم المنادون: "يا عبيد الدنيا، بالامس ضال ومضلل، واليوم إمام هدى؟".
اما الشاعر الشامي الاصل ابو عمرو كلثوم العتابي فقد كان حائرا في تقرير ولائه بين حكام وولاة لا يعرفون العدالة، ولا يزاولون الحق، وكان في ضيق وفي حاجة، ونقل العلوي في مستطرفه الجديد انه قيل للعتابي يوما: لمَ لا تقصد السلطان فتخدمه، فقال "لأني اراه يعطي واحدا لغير حسنة، ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدري اي الرجلين انا؟".
اما ابن طباطبا، محمد بن ابراهيم، فقد مل الولاء الى المأمون، وفيما كان يقلب الامر شاهد وهو يسير في احد طرق الكوفة عجوزا تتبع احمال رطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث، فسألها عما تصنع بهذا الرطب المتسخ في الرداء البالي، فقالت: اني امرأة ارملة ولي بنات صغيرات، فانا اتتبع هذا الرطب من الطريق واتقوته انا وعيالي، فبكى ابن طباطبا بكاء شديدا، وقال "أنتِ والله واشباهك تخرجوني غدا (على الولاء) حتى يسفك دمي"."
وثمة افضل تلخيص لمأزق الولاءات ما جاء على لسان شاعر قديم بقوله:
ويوم سمين ويوم هزيــل
ويوم امرّ من الحنظلة
ويوم ابيت جليس الملوك
ويوم انام على مزبلــة