ان التاريخ الانساني قد سجّل ، ما قد أصبح معروفاً لجميع شعوب الأرض، أن حضارات سومر ، بابل ونينوى هي الموطن الأول في تاريخ العالم للكثير من الاختراعات ، وأمثلة قليلة منها تكفي للدلالة على ذلك : كالكتابة والطب وعلوم التنجيم والطب والقانون المدني وتشريعاته والدولاب والعجلة وبناء المدن وادارتها ...
ويبدو أن الشعوب التي عاشت في أرض وموطن هذه الحضارات قد تأثرت وتلقحت هي الأخرى بروح الريادة هذه وتمت عدوتها بعدوى أن تكون الأولى في أمور شتى ، والشعب اليهودي ، بنو اسرائيل الذين استوطنوا في بلاد حضارات الرافدين، سجلوا الأولوية التاريخية باسمهم في كتابة وتكوين إرث وحضارة دينية ولاهوتية نالت مرتبة السبق على غيرها بين جماعات الشتات اليهودية في بقاع أخرى ، فيهود بلاد النهرين أصبحوا المرجعية القيادية لقرون عديدة لكافة الشتات الاسرائيلي .
وليس غريباً، وإن يكن جديداً على البعض، أن تحتل فيه المرأة اليهودية العراقية السبق في تاريخ بني اسرائيل، والمتمثل بكون الرابي الامرأة الأولى في العالم كانت عراقية ، وهذا بحد ذاته يعتبر سابقة تاريخية فريدة جداً ولا مثيل لها.
في حين يسجل المؤرخون اليهود لليهودية الالمانية ريجينا يوناس بأنها الرابي الامرأة الأولى في عام 1935م في برلين، التي تمت ترقيتها وسيامتها في تلك السنة رابي امرأة.
يعتبر البعض الآخر من المؤرخين بأن الكردستانية الموصلية أسينات برزاني (1590 ـ 1670 م) ابنة رابي شموئيل هاليفي برزاني الرابي المعروف ورئيس الجماعة العبرانية في كردستان في القرن السابع عشر ، كأول رابي امرأة في التاريخ اليهودي .
عاشت أسينات برزاني في الموصل حيث ولدت . والدها شموئيل برزاني كان رابيا معروفا ورئيس الجماعة اليهودية في الموصل وكردستان العراق . كان رجلا ورعاً ومتحمساً غيوراً على جماعته ، ونشيطا في تعليم التوراة والتلمود للجماعة ، فكرّس حياته لجماعته ، يسافر الى كل القرى والارياف التي انوجد فيها يهود في كردستان ، كما قام بتأسيس عدد من المدارس اليهودية الدينية (يشيفوت) في كردستان . وأن جماعة يهود الموصل وكردستان لشدة حبها له ولجهوده الكبيرة رأت فيه أميراً لها.
قام بتعليم ابنته أسينات على الدراسة ومنهج دراسة التوراة والتلمود والقبالاه والتأمل فيها، كما علّمها أسراريات القبالاه وحكمتها التي كان استاذا فيها. لتتمكن أسينات ـ التي أظهرت ذكاءاً كبيرا وحبا للتعلّم ـ فيما بعد من القيام هي أيضاً بمهام التعليم .
حين خطبها ابن عمها رابي يعقوب ابن ابراهام المزراحي العمادي (من العمادية ـ كردستان العراق)، طلب منه والدها رابي برزاني بأن يتضمن عقد الزواج من ابنته شرطاً وهو، عدم انشغال ابنته أسينات في أعمال المنزل لتتمكن من الدرس المستمر في علوم القبالاه والتلمود ولتتمكن من القيام بالتفرغ لمهمة التعليم.
وهكذا كان، فأصبح الزوج رابي (يعقوب ابراهام) رئيسا لمدرسة (يشيفا) الموصل ، وقامت أسينات بالتعليم في نفس المدرسة. كما أنجبا ولدا وبنتا.
توفي رابي يعقوب أبراهام في عمر مبكر، وأصبحت مسؤولية العائلة على عاتق أسينات، كما استلمت رئاسة مدرسة الموصل. وبهذا تصبح أسينات أول رئيس (امرأة ) لمدرسة التلمود في تاريخ اليهودية كله ، في مدينة الموصل.
كما أنها تولت مسؤوليات والدها الدينية والتعليمية بعد وفاته . وهكذا أصبحت أسينات معروفة كمعلم أول للتوراة في كردستان العراق، كانت تردّ على اسئلة واستفسارات ومشاكل جماعات كردستان اليهودية وتعطي لهم المشورات والحلول والقرارات.
وقامت كوالدها ، بالسفر الى الجماعات اليهودية ومدراسها في مناطق وقرى كردستان للاطلاع عليها وتفقدها، متحملة مخاطر السفر ومشاقه ووعورة طرقه الجبلية الصعبة.
في تراث كردستان العراق اليهودية ذكرٌ لبعض من مهام وتعليم أسينات في القبالا ، كما هناك العديد من الروايات حول أسينات بين يهود كردستان .
يضاف الى ذلك فان أسينات كانت شاعرة كتبت بالعبرية ، ويمكن اعتبارها لذلك من أوائل النساء الشاعرات القليلات بالعبرية في تلك الحقبة في العراق والشرق.
تم اعطاء لقب (تنائيت) لأسينات، الذي يعني معلمة توراة وهذا الأمر الآخر الذي يعتبر نادرة فريدة في تاريخ اليهودية في العالم. حيث يعتبر لقب أو منصب تنائي محصورا بالرجال الرابيين المعلمين اليهود، وحصلت عليه أسينات استثناءاً ، وأصبحت المرأة الوحيدة التي حصلت عليه.
يُذكر بأن والدها الرجل الورع كان يرافقها كثيراً بعد وفاته في أحلامها وكان يقوم بارشادها أيضاً.
واحدة من الروايات حول أسينات :
العمادية كانت تضم واحدة من أكبر الجماعات اليهودية الكردستانية، وكانوا يلقبونها بعاصمة يهود كردستان. يأتي على ذكرها بعض الرحالة الذين مروا بها ، ومنهم الرحالة الطليطلي (الاسباني) الشهير رابي بنيامين. كما ظهر في العمادية الرائي ديفيد ، واحد ممن ادعوا بانه المسيّا المنتظر.
في واحدة من هذه الروايات يُذكر بأن أباها طلب منها في منامٍ، أن تزور الجماعة اليهودية في مدينة العمادية للاحتفال مع الجماعة بظهور أول الشهر العبري . وكانت في ذات الوقت تمر العمادية بظروف صعبة حيث كان فيها وحولها بعض الاضطرابات التي لم تكن تخلوا منها مناطق كردستان بين الحين والآخر. فطلبت جماعة الموصل اليهودية من أسينات بعدم الذهاب الى العمادية التي تشهد بعض الاضطرابات التي في جانب منها يتعرض فيها يهود العمادية للمضايقات، خوفاً عليها وحرصاً على حياتها . لكن أسينات رفضت وأصرت على التوجه الى العمادية. كانت واثقة من الصوت الذي سمعته في منامها بأنها ستكون محمية من الله.
وحين وصولها الى العمادية تم استقبال أسينات من قبل أهالي العمادية بتكريم وحفاوة لائقين باستقبال رئيس ومعلم كبير للتوراة .
وجرت العادة اليهودية أن يتم الاحتفال بأول (بداية ) الشهر العبري القمري في ساحة أو مكان مكشوف .
في العمادية طلبت أسينات أن يتم الاحتفال بحسب التقليد في ساحة مفتوحة في الهواء الطلق. لكن الأهالي طالبوا أسينات أن يتم ذلك داخل السيناغوغ، لأنهم على علمٍ ببعض الأصوات المعادية حينها لليهود من قبل بعض الجماعات المحيطة بالعمادية التي قد أضمرت شرّاً للقيام باعتداء على يهود العمادية . حيث قد وصلتهم بعض الأخبار من كركوك والقوش وبغداد بأنه قد تم القيام باعمال عنف ضد اليهود وسوف يتم القيام بأعمال عنف واعتداء على يهود العمادية أيضاً . لذلك طلبوا من أسينات أن لا يتم الاحتفال بحلول رأس الشهر في الهواء الطلق بل يتم الاحتفال به داخل السيناغوغ الذي سيكون أكثر أماناً وعلى الأقل يمكن الاحتماء داخل جدرانه الضخمة .
وكان جواب أسينات الى الأهالي : "لا تخافوا لا تخافوا. سنحتفل بقمر أول الشهر هنا في الهواء الطلق مثلما فعلنا دائماً ونرقص ونفرح على ضوء القمر الجديد، وسيكون الله في حمايتنا".
وما أن بدأوا بالاحتفال الا ويسمعوا أصواتا شديدة وقوية من السيناغوغ غير البعيد منهم، واذا بهم يرون النيران تندلع من السيناغوغ ، وانقلبت فرحتهم الى مأتم وبكاء وحزن.
وبينما كان الأهالي يفكرون بالدخول الى السيناغوغ لانقاذ لفائف التوراة والكتب والاشياء والاغراض المقدسة من النيران داخل السيناغوغ.
طلبت أسينات منهم بحركة منها حيث وضعت اصبعها على شفتيها علامة منها تأمرهم بالسكوت والهدوء. وتمتمت أسينات ببعض الكلمات التي لم يفهم منها شيئاً من كانوا بالقرب منها .
ولا يرى الجمع الا بنزول ريح عاتية من السماء مليئة بأشباح (ملائكة؟) وكأن لها آلاف الأجنحة المرفرفة التي نزلت باتجاه السيناغوغ ، وماهي الا لحظات الا وقد اطفئت النيران ولم يعد وجود لتلك الكائنات الغريبة ـ ودخل الاهالي الى السيناغوغ ورأوه بحالة سليمة ولم تلتهم النيران أي من اللفائف المقدسة للتوراة ولا حتى حرفا واحداً منها.
من بعد ذلك أخذت الدهشة المليئة بالفرح الجماعة اليهودية في العمادية ، والعجب أخذ الاهالي غير اليهود.
تم تكريس سيناغوغ العمادية على اسم أسينات تكريما وذكرى لها.
|