المُجتمع العراقي بَين رَبع ما قبل 9 نيسان 2003 ورَبع ما بَعده


لقد أثبَتت السنين القليلة الماضية أن المُجتمَع العراقي هَش في تركيبَته الى أبعَد الحُدود، وأن ما يُقسّمه أكثر بكثير مِما يَجمَعه، فبالإضافة لتشَظّيه مَذهَبياً وعِرقياً ودينياً، نَجده مُنقسِم الى رَبع ما قبل 2003 ورَبع ما بَعده، والشَرخ الذي أحدَثه بينهم الإختلاف حَول ماقبل وبَعد هذا التأريخ لا يَقل حَجماً عَن ذلك الذي أحدَثته الإستِقطابات الطائفية. وسَبَبُه هو أن كل فريق يَرى جُزئاً فقط مِن صورة الأحداث التي سَبَقت وتلت 2003 ويَرفض رؤية جُزئها الآخَر لتكتمل لدَيه الصورة بكل أبعادِها، وذلك نتيجة لدَوافع إجتماعية أو مَصلحية أو طائفية تَحول دون ذلك، وهو ما سَيُبقي هذا الإنقسام مُستمراً رُبما لسَنوات طويلة قادمة. 
لنَبدأ برَبع ما بَعد 2003 الذين إعتادوا مُنذ ما قبل هذا التأريخ وحَتى اليوم على إتِّهام النظام السابق بكل ما يَخطر في بالهم مِن إتهامات، وهي عادة لم تستطِع حَتى قياداتهم التي زرَعتها فيهم أيام المُعارضة تركها رَغم وجودها بالسُلطة مُنذ 10 سنوات. فقد كانوا يَتهمون النظام السابق بسَرقة أموال الشَعب، لكن سَرقاته تبدو اليوم بقشيش مُقارنة بالسُحت الحَرام الذي يَكنزونه هُم مِن أموال هذا الشَعب. وكانوا يَدّعون بأن له ولأبنائه فيللاً وشَركات وجُزر بكل أنحاء العالم أثبَتت الأيام أن لا وجود لها سوى بمُخيلتهم المَريضة، لكننا نفاجأ يومياً بأخبار ما يَملكه الساسة الجُدد وأولادُهم وأقاربُهم وإبن عَم الخيّاط الذي خيّط بَدلة عُرسِهم مِن فيلل وشَركات وحِسابات بكل أنحاء العالم. كما كانوا يُهاجمونه لقتله الكثير مِن الناس، لكن ساسَتهم قتلوا في10 سَنوات مَضَت بقدَر ما فَعل خلال 30 سَنة ورُبما أكثر. وكانوا يُعيّرونه بسجونه المَليئة بأناس كان فيهم أبرياء ظلِموا وأخِذوا بالشُبهة، لكن ماذا عَن سجونهم المَليئة اليوم بأضعاف ما إحتوَت سجونه، وفيهم أيضاً أبرياء ومَظلومين. لا نَختلف على حقيقة أن الرَئيس السابق ونِظامه كان دكتاتورياً قمعياً شُمولياً لكنه كان علمانياً لا طائفياً ولا عُنصُرياً، أما حُكام اليوم فدكتاتوريون قمعيون وشُموليون وفوق كل ذلك جُهلاء مُتخلفون ظلاميون وطائفيون. هو كان يَقتل كل مَن يُعارضه مَهما كانت طائفته وقوميته ودينه، وما فعَله بأبناء عُمومَته وأزواج بَناته خَير مِثال على ذلك، أما هُم فيَسعون لقتل وتصَفية كل مَن يُعارضُهم بالإضافة لكل مَن لا يَنتمي لطائِفتهم ولا يُؤمن بأفكارهم ولا يَتصَرّف ويَلبَس ويَأكل كما يُريدون. وبغَض النظر عَن إن مُخططات أغلب مابُني بالعراق في القرن الماضي هي مِن إنجازات مَجلس الإعمار الذي أنشيء بالعَهد الملكي والتي بَدأ تنفيذها عام 1956، إلا أن الكثير مِنها رَأت النور بزمَن الحكومات الجمهورية التي تلت النظام الملكي، مِنها ما بُني في عَهد قاسم، ومِنها ما بُني في عَهد العارفين أو البَكر، ومِنها ما بُني في عَهد صدام وهو ما يَستخدمه ساسة النظام الجَديد الفاشلين ورَبعهم مُنذ 10 سَنـوات مِن بنايات عامـة ومؤسّسات وما يَسيرون فيه مِن شوارع وطُرق سَريعة، وما تشغله الدولة مِن بنايات حُكومية، بُني الكثير مِنها بعَهده وليس لهم فيها فَضل، فهُم مُنذ وَطأت أقدامَهم أرض العراق المَنكوبة بهِم لم يَضعوا طابوقة بناء واحدة. ويوم قالوا كلاماً أكبَر مِن حُجومَهم الضَئيلة بأنّهُم سَيَبنون شيئا ما إستعداداً لفعالية بغداد عاصمة الثقافة العربية فشلوا فشَلاً ذريعاً بَل ولبُؤسهم إضطرّوا للتعاقد مَع شَركة أجنبية لتنصُب لهم خيمة يُقيمون بها حَفل الإفتِتاح لضُيوفهم الذي إستضافوهُم بفنادق بُنيَت بعَهد الرَئيس السابق. مِن ناحية أخرى فقد حافظ النِظام السابق على حَد أدنى لجَيش ومُؤسّسات أمنية تمَكنت مِن حِماية بلادها وحُدودها وشَعبها لفترة، أما النُخبة الحالية فإنساقت لجَهلها وعُقد نقصِها وحَلّت الجَيش وبالمُقابل لم تنجَح ببناء جَيش يُمكنه حِماية البلاد التي باتت مَرتَعاً لأجهزة المُخابرات العالمية، ولا ببناء أجهزة أمنية تستطيع الحفاظ على الأمن اليومي البَسيط للمُواطنين الذين باتوا يَموتون يَومياً ضَحِيّة إرهاب يَفتك بهم ليل نهار. أخيراً وليسَ آخِراً فقد نجَح النظام السابق رَغم بُؤسه بوَضع أسُس مُتواضِعة لبُنى تَحتية فشِل ساسَتكم الأغبياء مُنذ عَشر سَنوات ليسَ فقط بالإتيان بما هو أحسَن مِنها لا بَل وبالحِفاظ عليها. لذا ما أفضليّتهم عَليه، أليسوا أسوَء مِنه بكثير! بالتالي ألا يَخجَل رَبع مابَعد2003 مِن رَبهم وأنفسهم، وبهم أناس بُسطاء طيّبون حين يُدافعون عَن ثلة مُجرمة وفاسِدة مِن الرَوزخونية وتُجار الدين تَسوقهم كالخِراف الى حَيث تَشاء بإسم الطائفة والمَذهَب؟ فواقع كون نظام ما قبل2003 كان سَيئاً لا يَعني بالضَرورة أن كل ما جاء بَعده جَيّد، ولا يُبَرّر أن يَقبل به المَرء ويَصطف الى جانبه رَغم عِلمه بأنه طائفي مُجرم مَقيت وأسوء مِن سابقه بكثير!! 
أما رَبع ماقبل2003 فهم لا يتوقفون عَن حَديثهم عَن تلك الفترة بكل ظروفها وشُخوصها وكأنها جَنة! رَغم أنهم في قرارة أنفسهم يَعلمون جيداً بأنها كانت جَحيماً، وأغلب الظن أن جُزئاً ليس بالقليل مِنهم كان يَتمَنى زوالها، فلماذا هذه المُكابرة والشزوفرينيا لمُجرد العِناد مع رَبع مابَعد2003! نَعم قد يَبدوا للبَعض إن وَضع ما قبل 2003 جَنة مقارنة بجَحيم ما بَعده، وقد يَبدوا فساد البَعث زلاطة مقارنة بنَتانة الدَعوة وأشباهَه مِن الأحزاب، وقد تبدوا حَملة النظام السابق الإيمانية الدِعائية بالتسعينات والتي لم تتدخل بحياة الناس ومَلبسِهم ومَأكلِهم علمانية مُقارنة بظلامية النظام الحالي الذي تتبنّى أحزابه الحاكمة الجَهل فِكراً والتخلف مَنهَجاً تسير عليه بحُكمها للبلاد والعِباد، نعم قد يَكون كل هذا صَحيحاُ لكنه لا يَعني أن نِظام ما قبل 2003 كان جيداً، ولا يَعفيه مِن تحَمّل مَسؤولية المَآسي التي عاشَها العراقيون آنذاك، والتي كان ما حَدَث بَعد 2003 مِن تداعياتها وتَحصيل حاصِل لها. فالنِظام السابق كان نِظام شَـقاوات بوليسي دكتاتوري يَعُد على الناس أنفاسهم، قمَع شَعبه وغيّبَ الآلاف مِن أبنائه في السجون وقتل رفاقه قبل أعدائِه، وأستنفذ ثرَوات العراق بمُغامَرات عَبَثية مِنها حَربين ذهَب ضَحيّتهما مِئات آلاف العراقيين،إن كان للأولى مُبَرّراتها الظرفية لصَد الأطماع الإيرانية التي لن تنتهي بأرض العِراق رغم أنه أول مَن تنازل لها عَن نصف شَط العَرب! إلا أن الثانية كانت إعتداء سافِر على دَولة آمِنة وجَريمة نَكراء بكل مَعنى الكلمة حَفر بها النِظام السابق قبره الذي دُفِن به بَعد2003. لذا لا أعلم كيف يُبرّر رَبع ما قبل2003 لرَبّهم وأنفسِهم دِفاعَهم عَن هكذا نِظام وتمَسّكهُم بأذياله المُهترئة، فحقيقة كون نظام ما بعد 2003 أسوء بكثير مِن سابقه لا تعني بالضَرورة أن سابقه كان جَيداً ولا تبَرّر أن يُدافع عَنه المَرء ويَترَحّم عَليه مَع عِلمِه بأنه كان سَيّئاً وبائِساً ومُجرماً!! 
هكذا هُم أغلب العراقيين اليوم.. مُنقسِمون كالعادة.. بَين مُوالِ لما قبل2003، ومُوالِ لما بَعده. بَين مَن يَرى ما قبل2003 جَنة وما بَعده جَحيم، وبَين مَن يَرى ما قبل 2003 جَحيم وما بَعده جَنة. بَين مَن كان ضَميره صاحياً فقط على جَرائم ما قبل 2003 إلا أنه سُرعان ما وضَع ضَميره في ثلاجة ليَتجاوز ويَغفوا عَن كل ما حَدث ويَحدُث مِن بَشاعات بعد2003 ويَرفض الإقرار بها، وبَين مَن صَحى ضَميره فجأة على جَرائم ما بَعد2003 فيما كان ضَميره نائِماً ولا يَزال عَن رؤية جَرائم ما قبل2003 والإعترف بها. بَين مَن يَرى بأن كل ما كان قبل 2003 سَيء بالمُطلق وكل ماحَدث ويَحدث بَعد2003 جيد بالمُطلق، وبَين مَن يَرى بأن كل ما كان مَوجوداً قبل 2003 جَيد بالمُطلق فيما يَرى كل ماحَدث بَعد2003 سَيء بالمُطلق. نظرتان قاصِرتان تعجِزان عَن رؤية الصورة بوضوح ومَوضوعية تفتقِدها الشَخصية العِراقية، وتحتاجان الى وَقفة مُراجَعة ومُصارحة مَع النفس للحُكم على الأمورمِن مِنظار مُحايد مَوضوعي يَضع الأمور بمَكانها المُناسب ويَراها بشَكلها الصَحيح بَعيداً عَن التطرّف بالمَشاعر والوَلائات الذي عُرفت به هذه الشَخصية. وحَتى ذلك الحين سَيبقى المُجتمع العراقي مُنقسِماً بَين رَبع ما قبل9 نيسان2003 ورَبع مابَعده، بالإضاقة الى إنقِسامه لأسباب أخرى كثيرة وهو ما سَيُبقي حال البلاد وأهلها على ماهي عَليه اليَوم مِن بؤس وشَقاء.