النفاق الســــياسي !!!

 

لعلـّهُ بدأ النفاق السياسي في العراق منذ أنْ أسقط كورشُ مملكة َبابل عام 538 ق.م ممثلة بآخر ملوكها الملك نابونيد الآشوري الأصل ، كمؤشر لـ((عالم بلغ الشيخوخة ، والأهم من ذلك أنَّ العالم القديم كان مدركاً لشيخوخته)) ، حيث طرأ تداخل سوسيولوجي في الذات الوطنية لأهل وادي الرافدين ، بين الولاء للفرس الإخمينيين وبين البقاء ثابتين على القيم الوطنية التليدة . والحالة هذه ؛ فقد ذاب من ذاب في السلطة الغازية ، وبقي من بقي مخلصاً لمملكة بابل ، لينتهي به المصير ُ إما إلى الموت أو التشريد .

وكم توالت على أرض وادي الرافدين من فتن وتناقضات سياسية .. من مؤامرات ومخططات ، مرّة ً تهدف إلى صهر ذات أهل وادي الرافدين في بوتقاتها الأيدلوجية وبرامجها السياسية التي لا مجال لسردها التاريخي الآن . ولعلّ المتتبع .. ذو اللب الرشيد يستحضرها ، مثلما يستحضر أرشيف حياته .

من هنا نرى ؛ إنَّ المغول الذين أيّدهم أهل العراق ذات انهيار مبرر مشروع ، عندما طـُرِحتْ نظرية (المساومة) على هوية الأمّة ، من خلال نظرية (العدل أساس الملك) ، هي اللحظة القاصمة للظهر الحضاري العراقي ، من خلال سيف أطروحة (حاكمٌ كافرٌ عادل ، أفضلُ من حاكم ٍ مسلم ٍ ظالم) .

لقد كانت تلك الأطروحة سلاحاً ذو حدّين .. حدٌّ قـَطـَعَ حبلَ الظليمة التي ألتفت على أعناق أهل العراق ، وحدٌّ تثلـّم منه السيف الوطني الأصيل و شباه . لهذا ؛ تروّض أهل العراق على نظرية المساومة ، تلك التي تعوّد العراقيون عليها عبر قرون نفاق ، أجبرتهم عليها ظروف وقائعهم وويلات الإحتلالات المتعاقبة التي توالت على أرض وادي الرافدين . منذ ُ أنْ وهبَ يزيدُ الرّيَّ إلى عبيدالله بن زياد .. ومنذ ُ أن ْ فوّض العثمانيون ـ ظلُّ الله في الأرض ـ عراقيين أذعنوا لسلطانهم ما أرادوا من الأراضي الأميرية المفوّضة والغير مفوّضة بالطابو، مفترضة الطاعة من مركز القرار بالإستانة ، ومنذ ُ أنْ سَرْكـَلَ الإنكليزُ فلاناً وفلاناً على هذه وتلك بأمر الملك جورج الخامس المعرّش على كرسيّ زعامة الدنيا الأعظم في GREAT BRITISH، ومنذ ُ أن ْ أستملكت حاشية ٌ ما أستملكت بإرادة ملكية قاهرة مستوردة من الحجاز والشام ، ومنذ ُ أنْ وهبَ صدّامُ رفاقه الدونمات الخمسة والمقاطعات والهبات والنياشين والسيّارات، ومنذ ُ أن تمَّ التنازلُ عن الكيلومترات إلى الجارة الشقيقة المملكة الأردنية الهاشمية ، ومنذ ُ أنْ تنازلنا عن أراض ٍ لنا بمنطقة الحياد لجارتنا اللدودة وأبنتنا التاريخية الكويت ، بحيث أمست آبارُ رميلتنا الشمالية أثداء ً ترتضعها آبار الرميلة الجنوبية الواقعة حقولها بأحضان جارتنا الجنوبية العربية المسلمة السمراء .

اليوم ؛ وبعد التاسع من نيسان 2003 ، يأتي القدرُ الخطير .. بين أنْ يعود العراق مضاعاً ممتهناً مستعمراً .. تماماً ؛ مثل عام 538 ق.م .. مثل عام 1258م .. مثل عام1534م .. مثل عام 1918م !!!

هذا المواطن العراقي .. إبن وادي الرافدين ؛ الذي رزح قرون ، تحت نير الهيمنات الأيديولوجية المتعاقبة على أجياله ــ وهي متباينة ــ فهل يمكن أن يكونَ إنساناً موَحَّدَ الرؤى !!!؟

ثم جاءت الطـّامّة الكبرى ؛ جاء صدّامُ حسين الدكتاتور .. القائد الضرورة .. بطل التحرير القومي !!!

هذا الحاكم الذي حكم شعب وادي الرافدين بشمولية جمهورية العراق 35 عاماً .. يلبس البدلة البيضاء في نهايات نيسانات حكمه الأحمر .. ويكفـّن الجماهير الرافضة بقماشٍ أبيضَ على مدى الأشهر والسنين !!!

كيف يمكن لشعبٍ عليه أن يقول (إذا قال صدّامُ قال العراق) أنْ يقولَ شيئا !!!؟

كيف يمكن لأهل وادي الرافدين أن يتحرروا من عبودياتهم التاريخية ، وهم مستعبدون في وطنهم ، من قبل مواطن يحكمهم بإسم (الوطنية الشريفة) وهو ليس بشريف .. أدخل العراق بثلاث حروب خاسرة ، لعنجهية في ذاته المريضة .. قتل بمسدسه الذهبي الأبرياء من معارضيه .. الغرباء والأقرباء ، ثم راح يدخن لفافة التبغ ، ويحتسي الويسكي ، ويتناول الفياكرا ، وهو يلعن أمريكا والغرب الرأسمالي ... يضع كرسيَّ رئاسته على الكاشان الإيراني ويسبُّ خمينيَّ إيران الإسلامية .. يقلـّد الشيخ عبدالله الجابر الصباح قلادة الأوسمة العراقية ويعيدها إلى بغداد بغزو ليلي مباغت .. يضع النقاط على (موسى آل سعود) ويعيدها إليه في 12/آب /1990.. يرى الملك حسين قزماً ثم يراه عملاقاً يجر حبل مدفع طارق ليقصف مدن إيران .. يجعل من المظلوم عدنان حسين الحمداني (مدلل الحزب) ليذبحه بلحظة رأي مخالف .. يتآمر على إبن خاله .. ولي نعمته وشقيق (أم عدي) صاحبة قصر السجود الذي منع أهل الأعظمية من التمتع بأنس ضفاف دجلة .. طلـَّقَ سميرة الشابندر من نوري الدين الصافي المسكين ، ليستمتع بشعرها (قـَصَّةِ الأسد الشقراء) ويلاعب أنفـَهُ بين خصلات عطره الفرنسي الذي خلب لبّه لحظة تبرعات المصوغات الذهبية لقادسية صدّام المجيدة !!!

غيَّرَ أسماء المدن العراقية .. غيّر أسماء الأنهار .. غيّر أسماء الجامعات .. غيّر أسماء المدارس .. غيّر حتى أسماء رياض الأطفال .. وغيّر حتى ذات المواطن العراقي ، فراح العراقيون يسمّون مواليدهم الأبرياء بإسمه !!!

وهم .. هم العراقيون الذين غيّروا أسماءَ مدنهم بعد 9/نيسان/2003 .. غيّروا أسماءَ مواليدهم .. غيّروا خواتمهم الذهبية إلى خواتم َ من الفضّة والعقيق .. غيّروا بدلاتهم الخاكية بعمائم بيضاءَ وسوداء.. غيّروا قلميهم المعلقين لكتابة التقارير على ذراعهم الأيسر ، بخاتمين فضّيين على الخنصر والبنصر، فأومأ لهم الوسطى منتصبا !!!