المسافة الواحدة من الجميع موقف مخادع!!

 

ليس مستغربا أن تسمع مثل تلك التصريحات من مؤسسات براجماتية دنيوية أو حتى من رجال ساسة يسبحون في فضاء البراجماتية (النفعية الأنانية)، ولكن تحتاج أن تقف طويلا وأنت ترى أن من يتزعم هذا الموقف الغريب والشاذ فكريا وعقائديا مؤسسة تدعي الزعامة الروحية والأخلاقية والدينية على الناس بزعم أنها الناطق الرسمي باسم الدين الإلهي؛ وثابت في الدين الإلهي منذ آدم(ع) أول خليفة لله سبحانه امتحن الخلق بطاعته وإلى أن تقوم الساعة قانون : (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، ولذا فمقولة (المسافة الواحدة من الجميع) هي سكوت شيطاني لا يخفى على عامة الناس.
ولعل من المضحك المبكي أن تجد أبواق هذه المؤسسة يعللون تلك المقولة أنها لا تعني الوقوف على مسافة واحدة من الصالح والطالح، بل هي تفرق بينهما وتدعو عامة الشعب إلى ضرورة المشاركة بالانتخابات، وأن ينتخبوا الأصلح ويسدوا الطريق بوجه الفاسد الذي لمسوا فساده وجربوه!!! وهنا للقارئ وقفة يتأمل فيها مدى الإمعان بالشذوذ الفكري والنفسي وبالمقابل مدى الاستخفاف بعقول الناس وكأن من يسمعهم لا يفكر بما يقولون!! وأدرج هنا بعض هذه النقاط على سبيل المثال لا الحصر تاركا للقارئ الكريم تلمس ما هو أعمق منها وأخطر على دينه ودنياه وآخرته:
1-   معظم المرشحين هم من الدورات السابقة إن لم يكونوا كلهم، بل بالقطع هم كل (الأربعين حرامي) موجودون لا يبارحون أي ممارسة انتخابية، والأربعون هنا ليست عددا بل تمثلا، فكيف يتسنى للشعب أن يختار الأصلح؟؟ والقرار ما يزال بيد من جرب الناس فسادهم وانتهاكهم لكل المحرمات، وبالمقابل هو يعلم تمام العلم أن الصور الجديدة التي أضيفت للصور القديمة ما هي إلا لعبة من ألعاب التمويه تقتضيها تطورات مراحل لعبة الديمقراطية في البلد، فهذه الصور الجديدة التي علقت ما هي إلا قناع تتخفى وراءه الكتل الفاسدة الكبيرة لتعود إلى موقع القرار عندما ينخدع الناس مرة أخرى ويذهبوا للتصويت ليجدوا كل الذين سرقوهم بالأمس هم على سدة القرار اليوم، والمعلن أنهم جاؤوا بصناديق الاقتراع!! وبعد جمعة أو جمعتين سيأتيهم الصوت القديم نفسه: نوصيكم بالصبر لأربع سنوات أخرى على أمل التغيير نحو الأحسن، ورحم الله القائل : موت يا حمار لما يجيك الربيع!!!
2-   هناك ملاحظة فنية خطيرة مفادها: إن مدة الدعاية الانتخابية ثلاثون يوما لا تزيد ولا تنقص، وعدد المرشحون يقارب العشرة آلاف مرشح ومطلوب من الناس أن ينتخبوا منهم ثلاثمائة وثمانية وعشرين نائبا!! وهنا من حقنا أن طالب خبراء الإحصاء (وحساب العرب) أن يوضحوا لنا هذه المعادلة العويصة التي لا حل لها سوى في أوهام من صنعوها؛ كيف سيسمع الناس البرنامج الانتخابي لكل مرشح في هذه الفترة الزمنية القصيرة مع وجود هذا الانتفاخ السرطاني الهائل بعدد المرشحين؟؟!! وكيف يتسنى للناس أن يعرفوا من خلال برامج إنشائية مضحكة كم هو الصالح من الطالح؟؟!! إذا كان موسى(ع) وهو موسى كليم الله ونبي من أنبياء أولي العزم خليفة لله وقائد الهي للناس لم يستطع أن ينتخب من قومه السبعين ألفا سبعين رجلا مؤمنا يرافقونه للميقات ليكشف الله سبحانه حقيقة ما انطوت عليه نفوسهم من النفاق والخبث، فكيف يستطيع البسطاء وعامة الناس أن ينتخبوا ما عجز موسى كليم الله سبحانه(ع) وهو نبي ورسول من أولي العزم عن انتخابه؟؟!! ألا يكفيكم هذا دليلا ساطعا ناصعا على أنكم ستلدغون هذه المرة من نفس الأفعى ومن نفس الجحر الذي كثرت لدغاتكم منه؟؟!!
3-   أليس من واجبات المؤسسة الدينية بما أنها نصبت من نفسها راعيا أبويا للانتخابات ولها مواقف نشطة عند حلول موسمها بدرجة لا يقارن بها نشاطها حيال واجباتها الأخرى العقائدية والاجتماعية والاقتصادية، وأولو الألباب يعلمون؛ أليس من واجبها أن تقول هذا صالح وهذا طالح تماما كما تفعل مع من يفضح ما خفي منها عند الناس، ويكشف لهم الحقائق، بحيث ما إن يصرح أحد الناس بانحراف هذه المؤسسة عن جادة الطريق إلا وانبرت الالسن والأقلام بالتشهير والتسقيط والتفسيق، وأمامكم ما فعلته تلك المؤسسة وأبواقها مع عنصر من عناصر العملية الانتخابية وهو النائب المعمم (حسين الأسدي) الذي قال : إن المؤسسة الدينية لا يعدو دورها في العملية دور أي منظمة من منظمات المجتمع المدني ... وكان يظن المسكين أنه بهذا التصريح قد رفع عن كاهل تلك المؤسسة مسؤولية الحمل الثقيل، ويضعها في سلة واحدة عند الانتقاد، حتى لا تكون غرضا لسهام المنتقدين الصادقين والمغرضين على حد سواء!! ولكنه فوجئ بالموقف الذي كاد يخرجه من ساحة الحياة، وليس من ساحة السياسة حسب، فلزم الصمت ولم ينبس ببنت شفة ـ هذا ظاهرا ـ والواقع هذا هو المنهج في التعامل والكيل بمكيالين؛ فمع الساسة الذين يقدسونها ولا يصلون إلى ساحتها هي على مسافة واحدة، ومع من يدخل ساحتها لا يدري من أين تأتيه الصفعة!!!
4-   ليت شعري ؛ كيف تتحرج المؤسسة الدينية من فضح الفاسدين مع أنها مطلعة على سرائر الأمور، ولا أقل من حق الناس عليها بوصفها الراعي الأساسي للعملية السياسية أن تنصفهم في الخطاب؛ فكما توجب عليهم الذهاب للانتخابات، فكان عليها أن ترشدهم إلى من ينتخبون ممن تراه صالحا ـ بزعمها ـ ولكن تعلمون لماذا في هذا المكان تركت الحبل على الغارب ونأت بنفسها عنه؟؟!! الجواب واضح جدا: لما تورطت في الانتخابات الأولى ودعمت قائمة الائتلاف وذاقت الناس من ويلات الائتلاف ما ذاقت، وتوجه نقد الناس لها مباشرة بوصفها هي من جيرت كل الخطاب الديني العاشورائي للترويج للانتخابات ولتلك القائمة، ولكن عندما جد الجد وجدت الناس نفسها قد مكنت يزيد(لع) مرة أخرى، ومرة أخرى كمثل كل المرات السابقة واللاحقة تخذل الحسين(ص)!!!
ولذا علينا أن ننتبه جيداً أن المسافة الواحدة هي مزلقة خطيرة حالها حال المثل القائل (ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء)!! فالمؤسسة الدينية تلقي بكم في مستنقع الفساد مرة أخرى وتقول لكم: إياكم إياكم أن تنتخبوا الفاسدين!! هل هذا موقف سليم؟؟!! نعم تعلم المؤسسة الدينية أنها بديمومة الانتخابات كممارسة موسمية فيها إطالة لعمرها وبقائها، وانتهاء هذه الممارسة وانكشاف زيفها هو إعلان لغلق تلك المؤسسة وإشهار إفلاسها، فهي بانخراطها في هذا المسلك تركت مهمتها الرئيسية في إعداد الناس وتعليمهم ما يرضي الله سبحانه، ودخلت إلى ساحة فيها رضى الساسة وسدنة العملية الديمقراطية الأمريكية!! وشتان بين الساحتين.
        إذن المؤسسة الدينية بهذا الموقف تجعل حال الناس ضبابيا، وتتركهم نهبة للذئاب، والراعي الصالح لا يترك غنمه نهبة للذئاب!! بل لأنه راع صالح فهو ينشد الصلاح لأبنائه ورعيته وواجبه أن يرشدهم إلى الصلاح، ولكن مع موقف المسافة الواحدة لا سبيل للصلاح ابداً، ولا مجال للتبرير فالتبرير سيكون حتما أقبح من الموقف بكثير، ومن يتابع خطابات المؤسسة الدينية يصل إلى يقين أن هذه المؤسسة لم يبق لها من الدين غير ما تحتله من الأمكنة، وتتزيا به من زي، أما المواقف التي هي الفيصل في تحديد هوية أصحابها، فمواقفها تذهب مع قول النائب (حسين الأسدي) إنها مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، ولقد أجاد الوصف وأصابه، فهي في كل عملها في واقع الناس لا تعدو هذا الدور، ومن ثم فهي تنازلت عن دورها الديني الذي تزعم تمثيله، وبات لا حق لها في أن تتحدث فيه مادام انخرطت بالعمل السياسي الدنيوي انخراطا تاما لا يحتاج إلى دليل لإثباته.
        ولعل ما يتوجه لهذه المؤسسة من انتقادات واضحة وبعضها جريء جدا من الناس عامة يكشف عن أن الوقت قد أزف لإماطة اللثام عن حقيقة تلك المؤسسة، وكون وصفها بالدينية لا يعدو الوصف الارتجالي؛ كمن يسمي فقيرا مدقعا باسم (غني) أملا في أن يعوضه الاسم عن مرارة واقعه الذي يعيشه، فهذه المؤسسة اليوم هي مؤسسة سياحة دينية ونذورات وحقوق شرعية تجبيها لها وكلاؤها من هنا وهناك، ولعلها اليوم هي أكبر مؤسسة مالية في العالم تعتاش ببرود على عرق المغفلين، وأموال الجشعين الذين يبحثون عن مخرج شرعي لجشعهم ونهبهم لقوت الفقراء والمهمشين الذين لا يسمع لهم أحد من الخلق صوتا، ولكن صوتهم وأنينهم يسمعه الله سبحانه وأولياءه(ع)، ولذلك قالوا: يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم ... فهل هناك من سامع ينظر ويتدبر وينأى بنفسه عن الهاوية؟؟!!