المسعودي والنديم والديانات الرافدينية |
ان افكار ماني قد جرى التعبير عنها باساليب اكثر فلسفية ، وليس هنالك من شك في ان الديانة المانوية كانت لديها القوة في هذا الشكل على جذب العديد من المفكرين ذوي الميول التاملية ، ومن الواضح ان الديانة المانوية قد رغبت خلال عصر الخلافة الاسلامية ، ان تظهر وكانها تفسير يعتنقه جميع من في العالم ، وقد اشتملت بالفعل على سلسلة من النظم العلمية وشبه العلمية ، وقد روى المسعودي ، انه كان للمانويين ولع في التاملات الطبية والفلكية ، ومثال على ذلك النظرية الطريفة المتعلقة بمراحل تطور الجنين في رحم امه والتي من الممكن تتبع اشكالها المختلفة ، وانتقالها من الرسالة الفهلوية الى الطوائف الصوفية المسلمة . واجه المانويون مقاومة شديدة جدا من السلطات خلال العصر العباسي ،فقد اتسمت ايام حكم المهدي [775 ــــ 785] والمقتدر [908 ــــ 932] بشكل خاص بقساوة وتعصب كثيرين ، وتم انشاء محكمة تحقيق تحت اشراف محقق رئيسي عرف باسم ,, صاحب الزنادقة ,, لاتخاذ الخطوات اللازمة ضد جميع الهراطقة ، وضد المانويون قبل كل شئ، وكما يظهر من اسمه ولقبه كان يتمتع بصلاحيات ، ومن الحوادث واعمال التنكيل التي عانى منها الموالون للديانة المانوية لاتعد ولاتحصى ، فعلى سبيل المثال ، انتهى العالم والمترجم ,, ابن المقفع ,, الى نهاية مخيفة ، حيث قام حاكم محلي ، كان خصما له ، باحراقه بافظع طريقة متصورة .. ومع ذلك فان بعض الحوادث على الرغم من انها لاتخلو من خلفية مظلمة يمكن سردها ببهجة اكبر ، فقد روى المسعودي اخبار حادثة وقعت ايام الخليفة المأمون [ 813 ــــ 833 ] تفيد في ايضاح الاساليب التي كانت مستخدمة ضد المانويين قال-;- (( وذكر ثمامة بن اشرس قال-;- بلغ المأمون خبر عشرة من الزنادقة ممن يذهب الى قول ماني ، ويقول بالنور والظلمة من اهل البصرة ، فامر بحملهم اليه بعد ان سُموا واحدا واحدا ، فلما جمعوا ، نظر اليهم طفيلي فقال-;- مااجتمع هؤلاء الا لصنيع ، فدخل في وسطهم ، ومضى معهم وهو لايعلم بشانهم حتى صار بهم الموكلون الى السفينة ، فقال الطفيلي-;- نزهة لاشك فيها، فدخل معهم السفينة ، فما كان باسرع من ان جيء بالقيود ، فقيد القوم والطفيلي معهم، فقال الطفيلي-;- بلغ امر تطفلي الى القيود ، ثم اقبل على الشيوخ فقال-;- فديتكم ايش انتم؟ قالوا-;- بل ايش انت؟ ومن انت ، من اخواننا؟ قال-;- والله مادري غير اني الله رجل طفيلي خرجت في هذا اليوم من منزلي فلقيتكم ، فرايت منظراً جميلاً ، وعوارض حسنة ، وبزة ونعمة ، فقلت شيوخ وكهول وشباب جمعوا لوليمة ، فدخلت في وسطكم ، وحاذيت بعضكم كاني في جملة احدكم ، فصرتم الى هذا الزورق، فرايته قد فرش بهذا الفرش ، ومهد ، ورايت سفراَ مملوءة وجربا وسلالا ، فقلت-;- نزهة يمضون اليها الى بعض القصور والبساتين ، ان هذا اليوم مبارك ، فابتهجت سرورا ، اذ جاء هذا الموكل بكم، فقيّدكم وقيّدني معكم، فورد عليّ ما قد ازال عقلي ، فاخبروني مالخبر؟ فضحكوا منه وتبسموا وفرحوا به وسُروا، ثم قالوا-;- الان قد حصلت في الاحصاء ،واوثقت بالحديد ، واما نحن فمانوية غُمزَ بنا الى المامون ، وسندخل اليه ، ويسائلنا عن احوالنا ، ويستكشفنا عن مذهبنا ، ويدعونا الى التوبة والرجوع عنه بامتحاننا بضروب من المحن، منها-;- اظهار صورة ماني لنا ، ويامرنا ان نتفل عليها ، ونتبرأ منها، ويأمرنا بذبح طائر ماء وهو الدرّاج ، فمن اجابه الى ذلك نجا، ومن تخلف عنه قتل ، فاذا دعيت وامتحنت فاخبر عن نفسك واعتقادك على حسب ماتؤديك الدلالة الى القول به ، وانت زعمت انك طفيلي ، والطفيلي يكون معه مداخلات واخبار ، فاقطع سفرنا هذا الى مدينة بغداد بشيء من الحديث وايام الناس. فلما وصلوا الى بغداد وادخلوا على المأمون ، جعل يدعوا باسمائهم رجلاً رجلاً ، فيساله عن مذهبه فيخبره بالاسلام ، فيمتحنه ويدعوه الى البراء من ماني ، ويظهر له صورته ، ويامره ان يتفل عليها والبراءة منه وغير ذلك ، فيأبون فيمرهم على السيف (!)، حتى بلغ الطفيلي بعد فراغه من العشرة وقد استوعبوا عدة القوم ، فقال المأمون للموكلين-;- من هذا؟ قالوا-;- والله ماندري ، غير انا وجدناه مع القوم ، فجئنا به ، فقال له المأمون-;- ماخبرك؟ قال-;- يا امير المؤمنين ، امرأتي طالق ان كنت اعرف من اقوالهم شيئا ،وانما انا رجل طفيلي ، وقص عليه خبره، من اوله الى اخره، فضحك المأمون، ثم اظهر له الصورة ، فلعنها وتبرأ منها ، وقال-;- اعطونيها حتى اسلح عليها، والله ما ادري ما ماني-;- أيهوديا كان ام مسلما، فقال المأمون-;- يؤدب على فرط تطفله ومخاطرته بنفسه . )) انتهى الاقتباس .. النديم ابو الفرج محمد بن ابي يعقوب اسحق المعروف بالوراق[380هـ /990م] له توقفات لاتختلف كثيرا على ماذكره المسعودي في كتابه ((الفهرست)) حين قال-;-[[ قال تيادورس المفسّر فى تفسيره للسفر الاول من التوراة، انّ الله تبارك وتعالى خاطب ادم باللسان النبطى وهو افصح من اللسان السريانى، وبه كان يتكلّم اهل بابل، فلما بلبل الله الالسنة تفرقت الامم الى الاصقاع والمواضع، ويبقى لسان اهل بابل على حاله. فاما النبطى الذى يتكلّم به اهل القرى فهو سريانى مكسور غير مستقيم اللفظ، وقال -;-غيره اللسان الذى يستعمل فى الكتب والقراءة وهو الفصيح، فلسان اهل سوريا وحرّان والخط السريانى استخرجه العلماء واصطلحوا عليه وكذلك سائر الكتابات، وقال اخر ان فى احد الاناجيل او فى غيره من كتب النصارى ان ملكا يقال له سيمورس علّم ادم الكتابة السريانية على ما فى ايدى النصارى فى وقتنا هذا، وللسريانيّين ثلثة اقلام وهى المفتوح ويسمى اسطرنجالا وهو اجلّها واحسنها، ويقال له الخط الثقيل، ونظيره قلم المصاحف والتحرير المخفَّف ويسمى اسكوليثا، ويقال له الشكل المدوّر ونظيره قلم الورّاقين والسرطا وبه يكتبون الترسل، ونظيره فى العربيّة قلم الرقاع وهذا مثال الخط السوريانى...]] الفن الاول من المقالة التاسعة من كتاب الفهرست فى اخبار العلمآء واسمآء.. ما صنّفوه من الكتب ويحتوى على وصف مذاهب الحرنانية الكلدانيين المعروفين بالصابة ومذاهب الثنوية الكلدانيين.. [[حكاية من خط احمد بن الطيّب فى امرهم، حكاها عن الكندى، اجتماع القوم على ان للعالم علة، لم يزل واحد لا يتكثر، لا يلحقه صفة شىء من المعلولات، كلّف اهل التمييز من خلقه الاقرار بربوبيته، واوضح لهم السبيل، وبعث رسلا للدلالة، وتثبيتا للحجّة، امرهم ان يدعوا الى رضوانه ،ويحذروا غضبه، ووعدوا من اطاع نعيما لا يزول، واوعدوا من عصى عذابا اقتصاصا بقدر استحقاقه ثم ينقطع ذلك.. وقد حكى عن بعض اوائلهم- انه قال-;- يعذب الله تسعة الف دور ثم يصير الى رحمة الله، وان يخص هؤلاء القوم الذين دعوا الى الله والى الحنيفية التى يقسمون بها ،وان مشهوريهم واعلامهم، ارانى، واغاثاذيمون، وهرميس، وبعضهم يذكر سولون جد فلاطون الفيلسوف لامّه، ودعوة هؤلاء القوم كلّهم واحدة وسنتهم وشرائعهم غير مختلفة، جعلوا قبلتهم واحدة بان صيّروها لقطب الشمال فى سفرة العقلاء، قصدوا بذلك للبحث عن الحكمة، ودفعوا ما ناقض القطر، ولزموا فضائل النفس الاربع، واخذوا بالفضائل الجزئية ،وتجنبوا الرذائل الجزئية، وقالوا ان السماء يتحرك حركة اختيارية وعقليّة المفترض عليهم من الصلوة فى كل يوم ، ولهم قربان يتقربون به، وانما يذبحون للكواكب(!) ويقول بعضهم، انه اذا قرب باسم البارى كانت دلالة القربان رديّة ،لانه عندهم تعدّى الى امر عظيم وترك ما هو دونه لما جعله متوسطا فى التدبير، والذى يذبح للقربان الذكور من البقر والضان والمعز وسائر ذى الاربع غير الجزور، مما ليس له اسنان فى اللحيين جميعا، ومن الطير غير الحمام مما لا مخلب له، والذبيحة عندهم مع قطع الاوداج والحلقوم، والتذكية متّصلة مع الذبيخة لا انفصال بينهما، واكثر ذبائحهم الديوك، ولا يؤكل القربان ويحرق ولا يدخل الهياكل ذلك اليوم .... وعليهم الغسل من الجنابة، وتغيير الثياب، ومن مسّ الطامث وتغيير الثياب، ويعتزل الطامث البتة، وقد يغتسل من الجنابة ومس الطامث بالغسل والنطرون ولا ذبيحة عندهم الا لما له رئة ودم ،وقد نهوا عن اكل الجزور وما لم يُذكّى، وكل ما له اسنان فى اللحيين جميعا ،كالخنرير والكلب والحمار، ومن الطير غير الحمام، وما له مخلب ومن النبات غير الباقلى، والثوم، ويتعدى بعضهم اللوبيا والقنبيط والكرنب والعدس، ويفرطون فى كراهة الجمل حتى يقولون ان من مشى تحت خطام بعير لم يقض حاجته ذلك(!!!!!!!) ويجتنبون كل من به مرض الوضح والجذام وسائر الامراض التى تُعْدِى، ويتركون الاختتان، ولا يحدثون على فعل الطبيعة حدثا، ويتزوجون بشهود لا من القريب القرابة ،وفريضة الذكر والانثى سواء، ولا طلاق الا بحجّة بيّنة عن فاحشة ظاهرة، ولا يراجع المطلّقة، ولا يجمع بين امرأتين ولا يطأهنّ الا لطلب الولد ]] حكاية اخرى فى امرهم-;- [[قال ابو يوسف ايشع القطيعى النصرانى فى كتابه فى الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين فى عصرنا بالصابة، ان المأمون اجتاز فى اخر ايامه بديار مضر يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيّهم اذ ذاك لبس الاقبية، وشعورهم طويلة بوفرات كوفرة قرّة جدّ سنان بن ثابت، فانكر المأمون زيّهم وقال لهم-;- من انتم من الذمّة؟ فقالوا-;- نحن الحرنانية، فقال انصارى انتم؟ قالوا-;- لا، قال -;-فيهود انتم؟ قالوا-;- لا، قال-;- فمجوس انتم ؟ قالوا-;- لا قال لهم-;- افلكم كتاب، ام نبى؟ فمجمجوا فى القول، فقال لهم-;- فانتم اذاً الزنادقة عبدة الاوثان، واصحاب الرأس فى ايام الرشيد والدى ، وانتم حلال دماؤكم(!) لا ذمّة لكم، فقالوا-;- نحن نودّى الجزية، فقال لهم-;- انما تؤخذ الجزية ممن خالف الاسلام من اهل الاديان الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ فى كتابه ولهم كتاب وصالحه المسلمون عن ذلك(!!!!) فانتم ليس من هولاء ولا من هولاء، فاختاروا الآن احد امرين، اما ان تنتحلوا دين الاسلام او ديناً من الاديان التى ذكرها الله فى كتابه، والّا قتلتكم عن اخركم، فانى قد انظرتكم الى ان ارجع من سفرتى هذه، فان انتم دخلتم فى الاسلام او فى دين من هذه الاديان التى ذكرها الله فى كتابه، والّا امرت بقتلكم واستيصال شأفتكم .. ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيّروا زيّهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الاقبية، وتنصّر كثير منهم ولبسوا زنانير، واسلم منهم طائفة، وبقى منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من اهل حرّان فقيه، فقال لهم-;- قد وجدت لكم شيئا تنجون به، وتسلمون من القتل، فحملوا اليه مالا عظيما من بيت مالهم احدثوه منذ ايام الرشيد الى هذه الغاية واعدّوه للنوائب، وانا اشرح لك ايدك الله السبب فى ذلك، فقال لهم-;- اذا رجع المأمون من سفره، فقولوا له نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه فى القران فانتحلوه فانتم تنجون به. وقُضِى ان المأمون توفى فى سفرته تلك بالبذندون، وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت، لانه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمّون بالصابة ،فلما اتّصل بهم وفاة المأمون ارتدّ اكثر من كان تنصّر منهم، ورجع الى الحرنانية، وطوّلوا شعورهم حسب ماكانوا عليه قبل مرور المأمون بهم على انهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لبس الاقبية لانه من لبس اصحاب السلطان، ومن اسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفا من ان يقتل ،فاقاموا متستّرين بالاسلام، فكانوا يتزوّجون بنساء حرّانيات، ويجعلون الولد الذكر مسلما، والانثى حرنانية، وهذه كانت سبيل كل اهل ترعوز وسَلَمْسين القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حرّان الى منذ نحو عشرين سنة، فان الشيخين المعروفين بابى زرارة، وابى عروبة ، علماء شيوخ اهل حرّان بالفقه والامر بالمعروف وسائر مشايخ اهل حرّان وفقهائهم احتسبوا عليهم ومنعوهم من ان يتزوّجوا بنساء حرّانيات اعنى صابيات، وقالوا لا يحلّ للمسلمين نكاحهم، لانهم ليس من اهل الكتاب ،وبحرّان ايضا منازل كثيرة الى هذه الغاية، بعض اهلها حرنانيّة ممن كان اقام على دينه فى ايام المأمون، وبعضهم مسلمون وبعضهم نصارى ،ممن كان دخل فى الاسلام وتنصّر فى ذلك الوقت الى هذه الغاية ،مثل قوم يقال لهم بنو ابلوط وبنو قيطران وغيرهم مشهورين بحرّان ..]] ـــ ((يتبع)) المصادر ــــــــــــــــــــــــــــــ مروج الذهب والمعادن الجوهر ــــ ابي الحسن المسعودي ـــ الجزء الثالث ـــ ص10 الفهرست ــــ النديم ص204،ص205،ص206،ص207،ص208،ص209 |