الجميع يتفق، مثقفو البلدان العربية والمستشرقون، ان المسلمين هم من صاغوا الحضارة العالمية طيلة قرون عديدة في ظل ازدهارهم.
وحين اقول (المسلمون) فان ذلك يعني جميع المسلمين، المؤمنون والمتدينون وبين ذلك، وان تلك الحضارة التي سادت ثم بادت، تقوم على مرجعية يمثل الدين فيها الركن الاساسي، مع فهم المسلمين لهذا الدين، مضافا اليه سلوك المتدينين به.
الدين في قمة ازدهار تلك الحضارة، كان القوة الدافعة والرافعة لفعل المسلمين واسهامهم في البناء الحضاري، وسلوك المتدينين الايجابي منه والسلبي ترافق مع تلك الرافعة، تبعا لفهم كل واحد منهم، وظيفة الدين ومهامه في الحياة.
كل زمن يفرض تحديات جديدة على المجتمعات، منها ماتستطيع ان تتواكب معه وترافقه في مسيره، ومنها ماتعجز عن تلك المواكبة، وتتأخر عنه.
كل مجتمع من تلك المجتمعات، لها اسبابها ومعوقاتها، التي تقف حائلا امام زمن التقدم والمسير الى الامام.
وهي اسباب عديدة ومتنوعة، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي باجتماعها، او بعضا منها تشكل عائقا امام الزمن وتحدياته، حيث لاتستجيب لها بالسرعة المطلوبة، ولا تتمكن من اجتراح الحلول لها، لعجز في التشخيص، أو تأخر في العلاج.
كل مشكلة تحتاج الى وعي بها ومعرفتها قبل التمكن من حلها، مقابل وعي متوهم بالمشكلة يزيدها تجذيرا ولا يساعد في الحل.
الوعي، ووهم الوعي، الاول ينطلق من لحظة التأسيس الاولى، وامكانية الاستئناف، من خلال العودة الى نفس الرافعة وهي الدين، الذي هو هوية الامة، والقادر على اعادة البناء الذي ساد ثم باد، ووهم الوعي ينطلق من لحظة الفوات التاريخي، وان اعادة البناء لا يمكن ان تقوم على تلك الرافعة، لأنها سبب التراجع والاندحار والسقوط.
وهذا الوهم ينطلق في تشخيصه للمشكلة، من مقارنات لتجارب اخرى وهي التجربة الغربية (الامريكية – الاوربية) جغرافية وحضارة، ويحاول استعارة نفس الادوات التي ساعدت على نهوض بلدان تلك التجارب وتطبيقها على جغرافية التأسيس الاول بعد ازاحة الرافع والدافع من حياة الناس.
الوعي المتوهم، يتناسى تلك اللحظة التي قام فيها الدين بإنجاز شرطه الحضاري، احترام العلم والعقل والابداع والتجديد، وهو شرط قائم وله القدرة على الانجاز مرة اخرى، لكن المختلف هذه المرة، هو طغيان سلوك المتدينين على فهمهم للدين.
الوعي المتوهم (قيد خطواتنا على طريق التقدم، وتوهمنا ان ثمة تناقضا بين ان يكون الانسان مسلما بعقيدته الدينية، وان يكون في الوقت نفسه ساعيا الى مايسعى اليه اهل الغرب، من ايجاد لعلم جديد، ثم اقامة حضارة جديدة على اساس ذلك العلم الجديد. وقد كاد الامر يكون كذلك، لو ان اسلامنا لم يجعل العلم وتطبيقه ركنا اساسيا في بنائه). كما يذهب الى ذلك الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (رؤية اسلامية).
وما جعلنا نعيش زمن الفوات التاريخي والحاضر والمستقبل، والذي انتهى بنا الى (موقف المتسول المحروم في دنيا العلم والصناعات، ليس هو اسلامنا، بل هو اننا قد اخطأنا منزلة العلم بأسرار الكون، والانتفاع بذلك العلم في الحياة العملية). المصدر السابق.
الوعي، والوعي المتوهم بالمشاكل والتعبير عنها، هي المساحة التي يشتغل عليها المثقفون، والذين تتعدد تعريفاتهم تبعا لمدارس ومناهج البحث الاجتماعي المعنية بالمثقف ودوره في المجتمع، وصفاته التي يتوفر عليها.
فالمثقف حسب تعبير ماكس فيبر: هو شخص تمكنه قدراته ومواهبه الخاصة من النفاذ الى منجزات ذات قيمة ثقافية.
والمثقف كما يعرفه روبرت ميشيل: هو شخص يمتلك المعرفة، وعلى اساس هذه المعرفة الموضوعية وتأملاته الذاتية يصوغ احكامه عن الواقع، دون ان يستمد هذه الاحكام مباشرة او بالضرورة من خبراته الحسية.
ويعرفه تالكوت بارسونز بانه: كل متخصص في امور الثقافة، ويضع اعتباراتها فوق الاعتبارات الاجتماعية اليومية المعتادة.
اما ادوارد شيلز فيعرف المثقف بانه: ذلك الشخص من بين قطاعات المتعلمين، الذي له طموحات سياسية، اما مباشرة بالسعي لكي يصبح حاكما لمجتمعه، او غير مباشرة بالسعي الى صياغة ضمير مجتمعه والتأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى. (ازمة المثقفين العرب، دراسة تحليلية/عاطف عضيبات، ورقة قدمت الى ندوة: الانتلجنسيا العربية، منشورات المكتبة العربية، تونس 1987).
في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين، تواجهت فرضيتان، كما يذهب الى ذلك اوليفييه روا في كتابه الجهل المقدس، إحداهما ترى في العلمنة سيرورة محتمة، هي شرط للحداثة ونتيجة لها في آن، والاخرى تسجل او تحيّي عودة الديني، مدركة إما على انها احتجاج على حداثة مستلبة أو وهمية، واما كشكل مختلف للدخول في الحداثة. وهذا الجدل ليس جدلا فكريا صرفا: فهو في فرنسا في صلب النزاع حول اللائيكية. (هي مفهوم يعبر عن فصل الدين عن شئون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشئون الدينية، وهي إذن حالة قانونية تهم الدولة وهي مبنية على الصراع، أما العلمنة فحركة داخلية عفوية تاريخية تهم المجتمع) هل ينبغي فرض اللائيكية في مقابل الديني، وعلى حساب الحرية الفردية اذا اقتضى الامر، ام ان التجديد الديني ماهو الا انعكاس للتنوع، وللغنى وللحرية الانسانية؟
والحال ان هذا الجدل ينطوي على سوء فهم كبير: فالعلمنة لم تزل الديني. وقد عملت العلمنة عملها في الواقع: فما نشهده انما هو اعادة صياغة مناضلة للديني في فضاء معلمن اعطى الديني استقلاله الذاتي وتاليا شروط توسعه.
الوعي المتوهم، وهو يحاول تفسير مايعتقد انه عودة الدين الى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، والتي تعيد تشكيل الفضاء العمومي للمجتمعات المسلمة، وعودته كقابلية فاعلة، وكهوية متجددة، دخل الى مرحلة اخرى لاحقة على الوهم، وهي الاستغراب من هذه العودة، وخاصة من جهة اقترانها بالسياسة، أغفل الوعي المستغرب والمتغرب، لقطاعات كبيرة من المثقفين، حقائق كثيرة يمكن اختصارها على نحو الاجمال الى ثلاث:
1 - يحتل الدين موقعه المتميز في التكوين الثقافي للمجتمعات العربية والمسلمة.
2 – مركزية السياسة في جوهر الافكار والممارسات في الاسلام، لم تنوجد مع حركات الاسلام السياسي بل هي سابقة عليها.
3 – الاختلالات والارباك والازمات المجتمعية في السياسة والاجتماع والاقتصاد، كثيرا ماتتوجه الى استدعاء الدين في صراع الحركات مع النظم السياسية القائمة، تحسب على الدين كمعتقد، رغم تنوع اتجاهاتها في فهم الدين، ورغم تعدد انشقاقاتها، ووجود السلبيات الكثيرة فيها، وهي انشقاقات وسلبيات تجعل الوعي المتوهم والمستغرب والمتغرب، يميل باتجاه نقد الدين وتحميله كل اخفاقات المتدينين.
لاوجه للتماهي بين الاسلام والاسلام السياسي، كما يخلص عبد الاله بلقزيز في كتابه (الاسلام والسياسة، دور الحركة الاسلامية في صوغ المجال السياسي)، لان افتعال التماهي سيلقي تبعات هي: (تحميل الاسلام كعقيدة اوزار افعال غير راشدة قد تأتيها حركات الاسلام السياسي في غمرة انغماسها في معارك السلطة والسياسة - تحريف معنى الاسلام بتحويله من عقيدة جامعة الى ايديولوجيا سياسية لفريق منها، مع ما يستتبعه ذلك من تكريس للشقاق والفرقة والاستقطاب داخل الامة الواحدة التي صنعها الاسلام).
|