حجامة السيد الحسني .. |
كان ولدي، الطالب في المرحلة المتوسطة ، معي في السيارة ، وكنّا نقترب من منطقة سكنية متواضعة ، حينما اتسعت حدقتاه وبدت على وجهه علامات التعجب وهو ينظر الى جهة ما ، من خلال نافذة السيارة ويهتف، مستغربا ، :
- غير معقول !
سألته ، يحفزني قلق عراقي دائم من حدوث مصيبة ،
- ماهو غير المعقول ،ما الذي يجري؟!
- يبدو انه انسان في غاية التواضع ياابي... فعلا ليسوا كلهم سواء !
سألته وعيني على الطريق: من هو هذا الانسان ياولدي؟
- السيد الحسني.....، اجاب ولدي
- ومن هو السيد الحسني ؟ ، تسائلت انا
- قبل قليل رأيت لافته تشير الى مسكن متواضع في رأس زقاق يبدو مدقعا ،وقد كتب عليها بخط عريض " حجامة السيد الحسني " كم نحتاج الى مثل هذا الرجل ، يبدو انه من رجال صدر الاسلام !! قال ولدي، وهو يسرح بنظره بعيدا . ازدادت حيرتي فسألت :
- ما الامر يابنّي؟!
- تعجبت من هذا الرجل ، فرغم منصبه الكبير ووظيفته الخطيرة ، ولا شك . فانه مازال يؤثر ان يسكن بين الفقراء ، ربما احتفظ بمسكنه القديم في هذا الحيّ ، وظل زاهدا في ترف الدنيا ....
قلت : من اين تعرفه ياولدي، واية وظيفة يشغل ، هل ابنه زميلك في المدرسة ؟!
اجاب كلا ولكن قد كتب على اللافته قرب المنزل " حجامة السيد الحسني "
- وماذا في ذلك ؟، قلت بصبر نافذ
بدا على ولدي الارتباك والحيرة : ماذا في ذلك !....الا تسبق اسمه كلمة حجامة ..... اليست مثل كلمات : سيادة وجلالة وفخامة وسماحة ، التي تسبق ، عادة اسماء الكبراء واولي الشأن ؟!
انفجرت ضاحكا ، واضفت .. وسعادة ونيافة ومعالي ودوالي !! ثم شرحت له ان الحجامة مهنه قديمه تعني بفصد الدم في اماكن معينه من جسم الانسان وهو نوع من الطب الشعبي وحينما تسبق اسم شخص ما أنما تشير الى امتهانه الحجامة ، مثل حدادة فلان ونجارة علان ....
قال خجلا : لم اسمع بها من قبل و خلتها من القاب التشريف والسيادة!
سرح ذهني الى ذلك الكم الهائل من زخرف القول الفارغ الذي اولعنا به عبر التاريخ ، ذلك اللغو الخلوّ من المعنى والذي وسم ، دائما ، عصور التدهور والاضمحلال الاجتماعي والسياسي ، عصور شيوع القهر والاستعباد لبني الانسان وسيادة الانتهازية والوصولية في الفعل والقول . لم يكن المسلمون في فجر الاسلام وفتوته ينادون النبي الاّ باسمه مجردا ثم بيا رسول الله فقط اما في عصور انحطاط الامبراطورية الاسلامية فقد اصبح لالقاب وكلمات التبجيل والتعظيم ، لذوي الجاه والسلطان ،بحر متلاطم من الكلمات الجوفاء التي تعكس خسارة القوة الحقيقية وظآلة المضمون الفعلي والانجاز الجاد فتلجأ الى حشو الكلام وزخرفه كنوع من التعويض، حتى الفنا ان تكون الديباجة اهم واكبر من المتن والمقدمة اعقد من الموضوع والالقاب وكلمات التشريف تغطي على الاسم والمنصب الخاص بالمخاطب حتى يضيع وسطها ،واقرأ معي شيئا من ذلك الهذيان القديم الذي زخرت به كتب الاولين ، مما قيل في مخاطبة وزير وليس سلطان او خليفة !!(مولانا ولي النعم، ومعدن الكرم، الملك العلم، العدل المؤيد من السماء ، المنصور على الأعداء، المتّوج بالجلال والسناء، شاهنشاه المعظم، مالك رقاب الأمم، سيد سلاطين العرب والعجم، حافظ عباد الله، حارس بلاد الله، معز أولياء الله، مذل أعداء الله، غياث الدنيا والدين، ركن الإسلام والمسلمين، تاج ملوك العلمين، قامع البغاة والمشركين، مغيث الدولة القاهرة، مزيل الأمم الكافرة، محيي السنن الزاهرة، باسط العدل والرأفة، ناصر السلطنة والخلافة، عماد ممالك الدنيا، مظهر كلمة الله العليا، مرفه الخلائق بالإنصاف، مزيل الجور والإعتساف، القائم بتأييد الحق، الناظم لصلاح الخلق، ظل الله في الأرض، محي السنة والفرض، سلطان البر والبحر، ملك الشرق والغرب.......... بهاء الدولة والدين، جلال الإسلام والمسلمين، ناصر الملوك والسلاطين، غياث جيوش العلمين، قاتل الخوارج والمشركين، قسيم امير المؤمنين، قوام الملة، نظام الأمة، قطب المملكة، معز السلطنة، عدة الخلافة، بهلوان إيران وتوران ....الخ الخ)
لقد ورثت ، سلطنة آل عثمان ، في مراحلها المتأخرة ، حينما اصبحت رجلا مريضا تتطلع اليه ، بنهم وترقب ، عيون الكواسر تترقب ساعة موته لتجهز عليه ، ذلك الثوب المهلهل الفضفاض من الاطناب الفارغ الذي يغطي على فقر المضمون وجدب المعنى، ثم اورثته بدورها الى ما يشبهها من بقايا النظم السياسية المهلهلة مما عرفنا وعاصرنا ، نظام المماليك المحتضر في مصر قبيل ثورة يوليو 1952 وغيره من الانظمة المشابهة في المنطقة ، لكن التغيرات الثورية التي شهدتها المنطقة العربية وبقاع شاسعة من العالم ابان منتصف القرن المنصرم وشيوع قيّم ولغة سياسية جديدة منذ مستهل القرن العشرين ، على صعيد العالم ، كنس هذه الحذلقات الى زوايا النسيان والميّت من القول بل وجعلها مثار سخرية وتندر فبتنا نجدها في حوارات الكوميديا المسرحية وكلام الشخصيات المتحذلقه في فكاهيات السينما العربية ولم تبق قيد الاستعمال الاّ في ساحة النظام السياسي اللبناني الذي هو نظام اقطاع سياسي هجين يعكس توليفه مصطنعه لعصور شتى تعبر عن معادلة وتوازن قوى اجتماعية واقليمية اكثر مما تعبر عن حقيقة واقع اجتماعي ومتطلباته . لقد جيء، في عراق ما بعد 2003 ، بهذه اللغة السياسية المّيته وبهرجها المحّنط ، لتلائم نظاما سياسيا مضطربا مايزال يبحث ، دون جدوى ،عن تحديد لهويته السياسية ومضمونه الاجتماعي، حتى اليوم . ان النظم الراسمالية الغربية ، وزعيمتها الولايات المتحدة الامريكية ،نتيجة للعقلانية التي هي مكّون اساس من مكونات العصرية والحداثة ، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، ليس فيها من مفردات لمخاطبة الشخصيات السياسية، مهما علا شأنها، سوى كلمة " سيد"Mister والتي تعكس ممارسة وايمانا متجذرا بالمساواة بين البشر في الحقوق السياسية ، على الاقل من الناحية الشكلية ،وكان يمكن لنظامنا السياسي ان يكون على الاقل ، امينا لولادته ولجهد القابلة التي رأى النور على يديها ، فيتبنى ذات اللغة السياسية مثلما تبنى مؤسسات وبنى سياسية شبيهة بدول ونظم المتربول لا ان يستعيرها من سلطنة آل عثمان الغائبة منذ اكثر من قرن من الزمان !
|