يقولون لك اننا نحترم التعددية، وكأنهم يتبرعون لنا بتوزيع المجتمع العراقي الى عقائد وانتماءات، فيما الحقيقة تتمثل في ان المجتمع العراقي نفسه متعدد الانتماءات والعقائد قبل ان يولدوا، والتعددية هنا غير الاختلاف في الرأي، وهم لايفرقون بين المعنيين، والحق، ان هذه المفاهيم جديدة على التداول العلني، ولايزيد عمر الكلام عنها غير عشر سنوات. في السابق، كان محرما الحديث عن التعددية واختلاف الاراء، فالمجتمع في عرف الحكم الشمولي قطيع حكم عليه بالتجانس والاذعان والتماثل. وبالامس طالعنا شعارا انتخابيا يلتزم اصحابه بالعمل على تجديد الهوية الواحدية للعراق، ونبذ الخصوصيات، ثم، يزعمون انهم يحترمون اختلاف الاراء باعتبارها ظاهرة حضارية، وهنا خطيئة شمولية اخذت طريقها الى الشاشات الملونة بدعوى حق التنافس، مثلها مثل مئات الشعارات التي تعبر عن جهالة مروجيها، او غيهم. اقول، ليس صحيحا القول، دائما وفي جميع الاحوال، بان الاختلافات ظاهرة حضارية، وكان ينبغي القول، دائما وفي جميع الاحوال، بان ادارة الاختلافات بعيدا عن العنف والاكراه والاستئصال والاستئثار والاملاء هو ظاهرة حضارية، حصرا، وقد نكون، في الحالة العراقية، قد عرفنا الاختلافات منذ زمن طويل، وعرفنا ايضا قمع الاختلافات وفرض الـرأي الواحد والحزب الواحد والرئيس الواحد، ونجرب في هذه المرحلة ان نمارس الاختلافات على قاعدة الاحترام المتبادل للرأي.. اقول: نجرب.. لأنه في موازاة هذا التجريب يجري اعادة انتاج عار الدكتاتورية وتحريم “وتجريم” حق ممارسة الاختلاف، وفرض التقديس على منظومة اراء وعقائد ومنع سواها بمختلف اساليب القهر والمطاردة. وثمة غير هذه الظاهرة الكثير من الوقائع التي يتناقلها مثقفون ومتعلمون واصحاب رأي عراقيون عن انسحاب هوامش التعبير عن الرأي المخالف تحت تهديد القوى الظلامية والمسلحة والمتسلطة وحتى من عصابات الجريمة المنظمة، ويمكن الاستدلال من جرائم الاغتيال الوحشية للمئات من الكتاب والاكاديميين والصحفيين الى التهديدات التي تلقاها غالبيتهم لرأي او موقف عبروا عنه، ما فرض جوا كابوسيا على الحياة العامة، وحياة ابداع الافكار بشكل خاص. وبمعنى آخر، فان توصيف الاختلافات بانها لاتعدو عن كونها (ظاهرة حضارية) تنطوي على تبسيط بارد للأمر، لان الاختلافات، في جوهرها، ليست كما يقال ظاهرة حضارية تتصل بعصر التنوير السياسي بل هي ظاهرة سابقة لهذا العصر ابتدأت بتشكيل الجماعات البشرية الأولى، فثمة خلافات بين السادة والعبيد حول شروط التابعية وخلافات في صفوف السادة أنفسهم بصدد السلطة وخلافات بين العبيد ــ أيضاً ــ حول سبل الخلاص من الرق، كما ان العصر الوسيط الذي سبق اندلاع الثورة الفرنسية شهد اختلافات عاصفة في المجتمعات الانسانية وفي مجال علوم السياسة والطبيعة معاً، وليس أدل على ذلك من مأثرة غاليلي في تحديه للكنيسة لاثبات حقيقة ان الارض تدور، بالضد من عقيدة السكون.
“ إياك والغرور فإنه يظهر للناس كلهم نقائصك كلها، ولا يخفيها إلا عليك “. طه حسين
|