النظم السياسية الديمقراطية في العالم لا تترك مناسبة الا وتبرهن بالأقوال والافعال انها ملك لشعوبها ، ولا تشرع قانونا الا برضاها ، ولا تخطو بخطواتها الا من أجل المزيد من الاصلاح بهدف توفير الرفاهية والاستقرار والعدالة ، ولا تدخر جهدا الا ووضعته في خدمة شعوبها ايمانا منها بان الشعوب هي المحرك الدائم لعمليات الارتقاء نحو التقدم والازدهار ، لذا نجد ان الدول التي تتخذ من التعددية السياسية ، وتقيم نظمها السياسية على اسس والمبادئ الديمقراطية كوسيلة للتثقيف والتوعية السياسية والاجتماعية لا تجد صعوبة لبلوغ اهدافها لأنها تسير بمحاذاة مصالح شعوبها ، بما في ذلك توفير اسس الحياة المدنية والحضارية ، وفي ذات الوقت تسعى باستمرار ان تهيء الارضية الصالحة للحوار مع شعوبها ، ولا تتردد في القبول بأفكارها المطروحة عن طريق برلماناتها ، بمعنى ليست هنالك خط احمر امام اية فكرة واجتهاد سياسي واجتماعي وثقافي تصب في خدمة الشعب الوطن ، وان مقتضيات المصلحة الوطنية هي فوق كل اعتبار ...
ما نحن عليه الكورد هذه الايام شيء مختلف ، وما يؤسف ان الديمقراطية التي نتبجح بها لم نأخذ منها الا القليل ، وهذا القليل لا يدور الا في فلك المصالح الحزبية الضيقة ، ولا نستخدمها الا غطاءً لفشلنا السياسي الذي لم نتمكن بعد مرور اكثر من عشرين عاما على تجربتنا المستقلة من توظيف قدرتنا السياسية باتجاه مصلحتنا الوطنية والقومية ، بل بقيت محصورة في الصراعات السياسية الخفية التي تحركها الاطراف الاقليمية والدولية باتجاه اهدافها ، والتي يجدها المستفيدون السياسيون كفرصة مؤاتيه للإيقاع بخصومهم بل وابعادهم عن الساحة السياسية لكي يتفرغوا تماما لأجنداتهم الخاصة بهم بعيدا عن المسالة والرقابة الشعبية ...
ولهذا نجد ان ما يجري في كوردستان من فوضى سياسية التي يسميها الطرف الاقوى في الاقليم وهو الديمقراطي الكوردستاني بمحاولة كسر الجمود لتشكيل الحكومة التي مضت على تأخيرها قرابة سبعة اشهر من عمر انتهاء الانتخابات البرلمانية ، هو ابعاد طرف سياسي قوي هو الاتحاد الوطني الكوردستاني على حساب طرف آخر وهي حركة التغيير التي تسعى بدورها جاهدة ان يستحوذ على مكانة الاتحاد الوطني ويتقاسم السلطة مع الديمقراطي الكوردستاني ، دون ان تدرك الاخيرة من هذه اللعبة السياسية غير المتوازنة من حيث المضمون والمعنى هي الاخلال ببنود اتفاقيتها الاستراتيجية مع الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي لا يزال يتمسك بها لكونها كانت واحدة من بين اهم الاتفاقات السياسية المهمة بين الحزبين الكبيرين التي ساهمت في تضيق الخناقات السياسية في الاقليم ، بل وانقذته من عنق الزجاجة التي يحشر نفسه فيها مرارا وتكرارا ، والتي كانت سببا من اهم الاسباب التي وضعت الاتحاد الوطني الكوردستاني في وضع حرج امام قاعدته الجماهيرية ، لكون ضريبتها كانت باهظة جدا بسبب عدم تعاطف تلك الجماهيرية معها ، بل وعدم تأييدها لها لأسباب عدة ، ونحن لا نريد الخوض في تفاصيلها في هذه المرحلة الحساسة التي يتطلب أولا وأخيرا ان نراعي مصلحتنا القومية والوطنية ، ولا ندخل في المزايدات السياسية التي وضعت الثوابت المبدئية السياسية عند البعض من الحركات المستجدة في عالم السياسة في خانة البحث عن المصالح المادية ، كالتي نجدها في حركة التغيير التي يتزعمها الاخ نوشيروان مصطفي حين اصبح بين ليلة وضحاها من خصم ازلي لدود للحزب الديمقراطي الكوردستاني وشخص زعيمه الاخ مسعود البارزاني الى صديق ودود ، ويرضى به حليفا والتسليم له دون قيد أو شرط سياسي ، حتى دون الرجوع الى طبيعة علاقتهم السياسية الغير المتكافئة التي لن ولم تلتقي ابدا في اية نقطة مشتركة مهما تبجح الطرفان بنوعية العلاقة التي تمخضت بعد التراجع السياسي للاتحاد الوطني الكوردستاني في الانتخابات البرلمانية الاخيرة .... وهذا يعني ان الحقائب الوزارية التي اتفق عليها الطرفان لتكون نواة لحكومتهم في الاقليم لن تدوم طويلا ، وسرعان ما يختلفون في اسلوب ادارتها ، لسبب بسيط جدا هو التجاهل لطبيعة النوايا السياسية التي تشغل بال الطرفين المتحالفين ، خصوصا الديمقراطي الكوردستاني الذي يسعى بكل ما يملكه من وسائل ان يكون سيدا على الساحة ، ويترك القوى السياسية المحطين به في مهب قراراته الفردية الغير القابلة للجدل ، في هذا الظرف بالذات حيث الايادي الاقليمية والدولية تستغل خلافات الاقليم مع حكومة المركز لتمرير مخططاتها السياسية الهادفة لتعميق تلك الخلافات بما يضمن مصالحها في الاقليم ، خصوصا تلك التي يتعلق بمسالة النفط وتصديره ، ومن ثم عدم التوافق المبدئي والسياسي على اسلوب حكومة الاقليم وسياستها في التعامل مع المركز بشان هذا الملف الذي تحول الى ازمة سياسية كبيرة ، ربما ستكون لها تداعيات كبيرة ، و لم يحسب لها الاقليم حسابا موضوعيا ليتجنب من ضغوطات المركز السياسية والمالية والاقتصادية ، بمعنى ان الاتفاق المبرم بين حركة التغيير والديمقراطي الكوردستاني على تشكيل الحكومة بمعزل عن قوة الاتحاد الوطني الكوردستاني ومكانته السياسية ، ومن ثم تهميش دوره القيادي سيترك بلا شك فراغا كبيرا يسبب في عدم توحيد الرؤى على المستويين السياسي والاداري ، و ذلك بالاستناد الى خبرته وكفاءته في بناء هيكلية الحكومة ومؤسساتها في كوردستان ، ودوره الريادي المشهود في ارساء دعائم الفهم المشترك بين الاطراف المشاركة في العملية السياسية ، والذي لا يمكن الاستهانة به كحزب سياسي كبير له بصمته الدالة في مسار بناء العراق على اسس التعددية السياسية ، والأهم علاقاته السياسية والدبلوماسية مع المجتمع الدولي والاقليمي ، فضلا من عضويته في المنظمة الاشتراكية الديمقراطية الدولية ، ودوره المشهود في ارساء دعائم السلام العالمي بين الشعوب، ودعوته الجادة الى نبذ العنف السياسي ، وتأكيده الدائم على مواصلة الحوار وتبادل الافكار بهدف احتواء الصراعات قبل تفاقمها بهدف غلق منافذ الشر العاتية التي تهدد المنطقة برمتها ، واقليم كوردستان غير مستثنية من تداعياتها....
لذلك نجد ان في اعادة النظر بالكيفية التي اتفق عليها الديمقراطي الكوردستاني وحركة التغيير حول هيكلية الحكومة القادمة في الاقليم هو عين الصواب ، ومنح الاتحاد الوطني الكوردستاني ما يستحقه من سيادة ومناصب سيضيف بلا شك من قوة وقدرة سياسية مضافة للإقليم ، لكونه صاحب تجربة فريدة منح بها زخما ماديا ومعنويا عاليا لسفر الحركة التحررية في كوردستان بعد نكسة 1975 حين اثبت حضوره وسط الميدان متحديا بذلك رهان المتشائمين من مستقبل المطاولة على النضال ، ولهذا نعتقد جازمين بأننا الكورد بأمس الحاجة الى رص الصفوف وتجديد ما تعاهدنا عليه من اجل حماية تجربتنا الناهضة من النزعات الدكتاتورية الجديدة ، لكي نرسم صورة المستقبل بهمة وطنية وقومية مشتركة ، ولا نختلف في شانها مهما تعددت وتنوعت اجتهاداتنا السياسية والفكرية .....
|