اليوم وأنا استعيد الناقد الكبير غالي شكري، تذكرت حادثة قديمة جمعتني بأحد أقربائي وكان مطوّعا في الجيش. كان ذلك القريب قد زارنا ذات يوم فرآني، وكنت لا أتجاوز العشرين من العمر، مستغرقا بقراءة كتاب ما. لذا لم انتبه له حين دخل وقال - السلام عليكم، قمت وإذا به يبادرني ـ هم كاعد تقره..عله أساس هاي الكتب راح توكلك خبز! وبدون أن أفكّر طويلا رددت عليه ـ وشتريدني أتطوع بالجيش؟؟ فانزعج أشد الانزعاج لأنه أعتبر العبارة تعريضا به. لا أدري، في الواقع، لماذا رددت عليه بتلك الحدة والعدوانية، ربما بسبب نبرة الاحتقار التي وصلتني منه، فنحن المثقفين معرضون دائما للازدراء ولذا ترانا مستعدين له سيكولوجيا. المهم أنني تذكرت هذه الحادثة العابرة وأنا أقرأ لغالي شكري كتابا رائعا لم أكن قد اطلعت عليه سابقا رغم أنني أعرفه منذ الثمانينيات بوصفه أعظم النقاد اليساريين في ثقافتنا العربية. أتذكر أيامها أنني سُحرت بكتابه "سوسيولوجيا النقد"، وحين رآني أبي أتمطرح معه قال بفخر وكأنه يتحدث عن رجل من عشيرته ـ غالي شكري تره ناقد ماركسي مهم. نعم، تذكرت ردي الحاد على قريبي وأنا أقرأ اليوم لشكري يقول: "حرفة الكتابة في الأدب والصحافة لم تكن قط مهنة محترمة وعندما كان يتقدم عريس إلى إحدى العائلات قائلا أنه أديب أو صحفي سيسألونه: فهمنا ..لكن تشتغل أيه ؟" شكري محق طبعا، فالناس عموما كانوا، وبعضهم لا يزال، لا يتخيلون أن تكون الصحافة حرفة يمكن لمن يجيدها أن يعيش مثل باقي الشغيلة، فيكون القلم آلة عمل شأنه شأن الفأس والمحراث والمطرقة. هم لا يتخيلون مثلا أن يجلس الكاتب منحنيا على الكيبورد ليكتب مسلسلا تلفزيونيا قد تكون أجرة الحلقة فيه ألف دولار، فكيف إذا وصل الأمر للقصة والرواية والمسرحية والمقالة والدراسة النقدية. أنا شخصيا أعاني من شظايا هذه النظرة فأبدو أمام من يزورنا من الأقرباء وكأنني "عطال بطال" ومدمن على الانترنت. وهذه النظرة موروثة من مرحلة ولادة المثقف حيث روج الأخير عن نفسه صورة غريبة نوعا ما فهو بوهيمي، يكثر من الجلوس في المقاهي ليستعرض ثقافته على العوام، متحدثا عن مفاهيم لا يعرفونها، فيبدو أمام الناس وكأنه "قشمر"، مفلس دائما ولا شغل له سوى الاستعراض والتبجح بما لا يقيت جوعانا ولا يستر عاريا. عدا ذلك، شاعت عند العوائل المبتلاة بأبناء مثقفين كهؤلاء "القشامر" حقيقة أنهم عالة على آبائهم وأحيانا أخوتهم الشغيلة، وان الثقافة يمكن أن تنحدر بأخلاقياتهم فتجعلهم متمردين على القيم، يلهثون خلف الموضات العالمية، وقد يبيتون خارج البيت، وإذا ما أتوا فمتطوحين سكرا وشعورهم الطويلة "تهف" من بعيد. وبمناسبة كلمة "قشمر"هذه، أتذكر في الثمانينيات أن التلفزيون عرض تمثيلية كوميدية وفي أحد مشاهدها يقف ممثل في المحكمة أمام القاضي، يسأله الأخير عن مهنته فيجيب ـ ممثل. فيلتفت القاضي للكاتب ويقول ـ سجل يمك "المهنة قشمر"! الحقيقة ان هذه الأسباب ليست الوحيدة في مأزق المثقف، فثمة خصيصة جوهرية سبق أن نوه لها الكثيرون وتوقفوا عندها مطولا، نعني روح الاستعلاء التي تميز بها، وهذه الروح خلقت هوة سحيقة بينه وبين الناس. بل ثمة ما هو طريف بهذا الخصوص، فالمثقف يعتقد أنه يتوفر على العدة اللازمة ليكون في الطليعة قائدا للمجتمع، ومع هذا فانه يناقض نفسه فيستعلي على من يفترض أن يقودهم. بالمقابل، يحتقر الناس المثقف ولا يتوقفون عن تذكر سيرته "المطينة بطين" معهم يوم كان يجلس في المقهى واضعا رجلا على رجل يرطن عن "المقروبات" والتنوير، ولكن ما إن يطالبه النادل بثمن الشاي حتى يصفر وجهه ويتطلع للأرائك بحثا عن أخيه رزوقي النجار كي يدفع عنه. كل ذلك ذكرني به غالي شكري فرحمه الله ورحم المثقف معه!
|