بلد غامض
العراق بلد غير مفهوم. وهو يحتاج إلى تفكيكات عدة، والى تقطير ثلاثي حتى تنفصل الانفعالات عن الاكروباتيكيات، ويحتاج إلى مفاعلات طردية كي تبتعد نيوترونات المغالطات عن نواة الوضوح وبعدها، الله العالم، قد نفهمه وقد لا نفهمه. إذا قلت: دستور، قالوا القضاء مسيّس، وإذا قلت حكومة وحدة وطنية، قالوا تفرد في السلطة، وإذا قلت سمك ينتظرون حتى تبيّن ما نوعه ولونه، وإذا قلت: برلمان قاموا بتمارين الإحماء. الصراع صيغة تعبيرية تكاد تكون وحيدة في العراق لذلك نجد الانفعال صفة غالبة. معظم سياسيينا لا يؤمنون بمبدأ المعارضة، ذلك لأنهم يعتقدون أن الذي يحكم سيجيّر كل شيء لصالحه، وبالتالي فإن الذي يعترض على الحاكم سيبتلع الدولة إذا ما نال السلطة. لا نعرف شيئا عما يحدث وأغلب الوجوه التي تظهر إما تستعرض حدة أسنانها أو تتوعدنا بنظراتها. لا تختلف الدورة الانتخابية الأخيرة عن التي قبلها سوى أن المرشحات الخاسرات أجمل من اللواتي فزن بمقاعد برلمانية. إن كثرة الطاولات المستديرة تعني عدم وضوح العملية السياسية وتعني أيضا أن لا أحد يجازف بإتباع الخط المستقيم. وكثرة الخلافات تعني أن هناك عصا فعلا ولكن السؤال: أين هي العجلة؟ توجد ثقافات اختبائية في بدننا الحياتي هي التي تتحكم بمفهومي الصح والخطأ، وهي ثقافات لا تجزم وإنما تعلل، وبالتالي فإن كثيرا من الجهد يهدر ريثما تتعشق الأطراف بمفاهيم مشتركة تمليها المصالح المتبادلة. وإذا ما دققنا في واقع التضحيات التي تقدم انتظارا للعراق المعافى، فإن الخيبة لا تسمح بمزيد من الأسف وتدعو الى ضرورة مكافحة الغموض وتعظيم الصراحة، وإن ننتبه للزمن المتسارع ونعير أهمية للذين يجدون حياتهم كئيبة وتنقصها الكرامة. يوجد إيمان مطلق بالعملية الديمقراطية، ولكن توجد في الأمعاء تقلصات تشتغل إذا ما جاء الأمر على غير ما يشتهي الهوى. توجد تطلعات مشتركة نحو عراق تسوده قيم العدالة والإخاء والمساواة، ولكن توجد اشتراطات ليست من صلب الموضوع، وإنما من وحي الوسواس الخناس. توجد طاقات تريد أن تغير واقعها، وأن تتنفس الهواء النظيف، وأن تصنع الغد لأجيالها، ولكن توجد أسلاك شائكة في مربعات صغيرة وخانقة كما السجون. إن الضمان الأكيد للنجاة هو المسار الديمقراطي المعزز بسلطة القانون المطلقة، وهذا الأمر يدعونا الى أن نكون أكثر وضوحا، وأن نتمسك بعمود الثوابت، وأن ندعم ونشجع الذي يظهر فينا وهو يمسك بكتاب الدستور مسكة حكيم لا يخشى ان تعيّره نساء قريش. الحياة واضحة وشفافة. وهي مخلوقة بقدرة تنظيمية شديدة الدقة. وكل تجارب البشرية كانت تركز على تقليل هجمة التحديات ونزع البربرية من جذور الروح، وهذا ما ناضلت من أجله مليارات البشر وقدمت أرواحها في سبيله، فلماذا نحن أقل حنكة ونبدو كمن لا يقرأ ولا يكتب؟