من أين يستقي مجتمعنا معتقداته، ايمانه، شرائعه، أحكامه الذاتية و العامة؟ رؤيته عن الماضي، رؤيته للراهن، و المستقبل؟ كيف تتشكل مفاهيمه، صداقاته، استعدائاته، سكوته، حديثه، وثبته، ومن ثم اتباعاته؟ اسئلة لا يمكن هنا ابدا، الاجابة عليها بالقدر المقبول، لكنها محاولة بداية للبحث في أسس تشكل المفاهيم و الوعي العام. قبل أن ابدأ في تفسير تلك الأسئلة، لابد وان أبدأ في تحديد موجهات الوعي في المجتمع، وسأختار عينة من مجموع مجتمع العراق، وهي مدينة"الموصل"(التسمية الحديثة لــ نينوى). وأرجو التركيز على عبارة(التسمية الحديثة لـــ نينوى)، وستعرفون الغاية منها لاحقا. قد لا أذكر كل موجهات الوعي، فربما يفوتني الكثير، ولكن بحكم اعتمادي على معرفتي بـــ المجالس الشعبية، مجالس العوائل، المجالس العامة في المقاهي، سيارات النقل العمومية العامة(الكيات)، التجمعات الأكاديمية، تجمعات الاطفال، تجمعات كبار السن ومجالسهم، التجمعات الخاصة جدا، تجمعات الطلبة، تجمعات بائعي الخضار، بائعي السمك، بائعي العطور، الاطباء، فئة الشباب، المراهقين، فئة المتشددين دينيا، فكريا، فئة اللامبالين. خلال اعوام مضت، استطعت ان احضر كل هذه المجالس وانا أراقبها جيدا. واضيف اليها، فئة السكان الافتراضيين لمواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك بالدرجة الأساس، فلا يمكن استيعاب القابعين في تويتر لعدم قدرته على تحديد ملامح الشخصية، على خلاف الفيسبوك. وهنا أذكر ملاحظة مهمة، لا سيما للناس الذين أعرفهم واقعا وافتراضا، فيمكن عقد مقارنة كبيرة جدا بين كيانهم الواقعي و الافتراضي، لمعرفة الكثير عن نمطية تفكيرهم وتشكل وعيهم. اضيف الى كل اولئك، من يسمون أنفسهم(نخب) سواء نخب دينية، معرفية، أو علمية صرفة. وقبل أن احدد اذكر بأن الموضوع يشمل فئتي الذكور و الإناث. اولا: موجهات الوعي العام و الخاص وتقسيماته : أ- الدين متمثلا بـــ : 1- خطيب الجمعة. 2- رب الأسرة(الموروث). 3- الاقارب. 4-التلفاز (عبر القنوات الدينية). 5- المدرسة (وهي المؤسسة الأكثر تأثيرا بالاطفال بشكل خاص). ب- كبار السن (ويتمثل ذلك بالتقليد الشعبي القائم على احترام الكبير واعتباره ممثلا للحكمة في العائلة و المحيط العام). ج - الأخبار العاجلة و الاخبار الدورية على الفضائيات. د- الشائعات. هــ - الرؤى و الاحلام وتنقسم من حيث تأثيرها وتحديد مؤثراتها الى : 1-الرؤية ذاتها. 2-تفسيراتها (التفسير الذاتي، التفسير المخصص، التفسير من الاخرين). و - التراث الشعبي العام و الخاص(وأقصد بالعام : الذي تناقله الناس عموما ولايمكن التفكير فيه، والخاص اقصد به هنا: الذي تشكل داخل اطار الاسرة نفسها). ل- القراءة . ف- الحكماء. ق- العشيرة و القبيلة وكل توابعها. ث- الذات. ص- الاصدقاء. وتطبيقا على (الدين) باعتباره موجها للوعي، ساختصر الكثير، واتحدث فيه، لانه يعتبر الأساس الاول في تشكيل المعتقدات اللاحقة له، وذكرته أولا، لاجل ذلك. مثال على الكوارث، حادثة 11/9 وتفجير ابراج التجارة العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية، قد يكون الكثير منكم سمع بالتفسيرات الشعبية و العامة لأسباب تلك الاحداث، والرأي الذي غلب حينها، هو وجود أساس وجوهر وجذر لها داخل القران، في سورة التوبة من خلال ربطها بالارقام وحسابات تبدو "منطقية" لقائليها، عبر ربط رقم السورة (تسلسلها تسعة) ، وتفسير معنى الاية(على جرف هارٍ فانهار به) تمثيلا لوعي ديني لا منطقي ولا عقلاني ولا واعي. وهكذا جرت الشائعات والتفسيرات حينها لاعتبار الحدث من الاحداث الموعود فيها بالقران، فربط الناس وعيهم الديني، بوعيهم الشعبي القائم أساسا على الحدس القديم للموروث الديني، ومبدأ الحكمة الالهية. ففسر احداث البرجين دينيا. مثال آخر من عمق المجتمع، يسمع الكثير منكم أن هناك شخصا مات بانفجار (اعتذر لكم عن ذكره) ولكنه مثال مهم، بانفجار مستودع مخلفات الانسان. يعبر الكثيرين عن هذه الطريقة بالموت(يتناسون انه انسان وانه موت) بانها شرّ ميتة، لماذا؟ لانهم يستندون الى وعيهم الديني والمجتمعي و الشعبي عن الطهارة والتطهر، فمن سيموت في مستودع النجاسة الا من كان فعله في حياته لا أخلاقي، ولا مقبول؟ هكذا يتم تجريد الذات عبر طمسها بتفسيرات لا انسانية لحدث انساني مؤلم جدا، ففوق موته، مات بطريقة محزنة. لكنهم لا يفكرون هكذا، لان وعيهم الأولي مستند الى مبدأ الطهارة. فيسترجعون وعيهم ذاك لتطبيقه واسقاطه على هذا. مثال آخر :حدث أن ماتت فتاة باطلاق ناري غير متعمد، وليكن عشوائي، حين لا يعرف الناس سبب الوفاة، سيبدأون أول الامر بتفسير موت الفتاة بأنه : غسل للعار، ويحيكون القصص و الروايات عن المسكينة وليس فيها من قولهم شيء البتة، لماذا؟ لانهم يستندون الى وعيهم التقليدي و العشائري القبلي في تفسير سبب موت "المرأة" فليس في عرف القبائل من سبب لموت امرأة الا دافعا يتنمي لفئة "غسل العار"، وكأن المرأة غير قابلة للموت. أمر آخر، قرأت منشورا، وهو الذي حفزني للكتابة، نص المنشور"أحدهم قد يفعل كل المحرمات، لكنه يرفض بشدة ترك نعاله مقلوبا". لماذا ياترى؟ أمرين لا ثالث لهما، الأول : انه يعتبر ان فعل كل تلك المحرمات أمر مرتبط بينه وبين الله، يمكن اصلاحه، لكن وضع النعال مقلوبا، فهو مرتبط بشريعة يؤمن بها، الصراع الابدي بين الله و الشيطان، وهو يعتبر نفسه موكلا بمحاربة الشيطان، فهذا يمكن ان يكون حبلا يضل مرتبطا به مع الله، ثم أن ارتباطه بهذا، موروثا لا ادراكا، كالذين عبدو الاصنام، ما نعبدها الا لانا وجدنا اباءنا عليها عاكفون، هذه احدى التطبيقات العملية للوعي الجمعي ، فعل لا واعي، هو مجرد فعل موروث لا يدرك فاعله سبب فعله الا من ارتباطه بالسابقين وفعلهم، فعلى رأي الجمهور"ابقاء النعال مقلوبا، يعني صلاة الشيطان عليه". فهو يسترجع ذلك الوعي القديم. أما عن رؤيتهم للماضي، الراهن، المستقبل، فهو من الصعوبة بمكان ان نفصل فيه بدقة، لانه متشعب، ولكن، معظم النظر الى الماضي هو بداعي العبرة مما حدث، دون محاولة التفكير في صحة الحدث الماضي او تفسيره بعيدا عن النظرة العامة، فهو يستند في تفسيره ذلك الى ما سمعه من (الحكماء، العلماء، الذين يفوقونه علما ومعرفة)، لكنه يفسر الراهن، اضافة الى كل موجهات الوعي المذكورة آنفا، فهو ينظر اليه بعين المدرك للحقيقة كلها، وكأن رأيه هو الغالب، لاسيما حين يحدث شيء يطابق رؤيته، فيعزز ذلك لديه صواب رأيه، وما ينظر للمستقبل الا بعين الدين تفسيرا لايات واحاديث وقراءات دينية، واساطير وخرافات. وبالمختصر، فان معظم -والاعم الغالب- أسس تشكيل الوعي و المفاهيم ترتكز على "ثنائية الخير/الشر" ، "الله/الشيطان"، "الجنة/النار". ولكني لابد ان أقول، ان نظرته الدينية تلك، تستند في تطورها الى الفهم العام وليس الفهم الدقيق لمحتوى الدين، فهو قد حيد الدين لصالح فهم الجماعة دون فهم الأصل. لان الدين هنا يكون محمول ومنقول، والعلة في الناقل و الحامل. وللحديث بقية.
عمر جاسم : باحث مستقل في دراسات الشرق الاوسط. |