إلى أين تقودنا الدولة الريعية ؟ سؤال يتوجب على كل معني بشأن المستقبل و الإقتصاد في العراق أن يطرحه على نفسه بعد أن بدأت بعض النذر الخطيرة والتي لا يمكن التغاضي عنها بالظهور..عجز قياسي في الميزانية يقدر بخمسين مليار دولار..توقعات بعدم قدرة الدولة على تنفيذ أية مشاريع عامة خلال السنوات المقبلة..تقديرات غربية متخصصة تنذر بأفلاس البلد خلال فترة لا تزيد عن ثلاث أو أربع سنوات. بالطبع لسنا بحاجة لمثل هذه التقارير لنعرف ماذا يحصل في بلادنا فهذه الأمور متوقعة تماما على ضوء المسار الحالي ولدى أهل الوعي و المعرفة بأبسط قواعد الإقتصاد و لمن كان (له قلب أو القى السمع وهو شهيد) طبقا للوصف القرآني.. يحدث هذا في بلادنا في زمن ( الذروة النفطية ) و مع تزايد معدلات إنتاج النفط إلى مستويات قياسية جديدة و السؤال الذي يطرح نفسه هنا و بإلحاح ..كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات أو ما يزيد عندما عندما ستذبل اثداء النفط عن العطاء وعندما يصبح سكان العراق خمسين مليونا وبعد أن تتراجع إمدادات دجلة و الفرات و تتصاعد المشاكل البيئية و يستمر تدهور القطاعات الإنتاجية في العراق ؟ هل ستنجح الدولة في الإبقاء على مستوى (الإنفاق الريعي الحالي) من خلال الدفع المباشر لملايين الموظفين و المتقاعدين الذين لا إنتاجية حقيقة لهم ؟ كيف سيصبح حال العراق و الدولة غير قادرة على بناء المستشفيات..و المدارس..و الجامعات ..وتسليح الجيش للدفاع عن الأمن الداخلي..و إنشاء منظومات الري..وشبكات الصرف الصحي و الخدمات الأساسية..لأن تخصيصات الموازنة العامة تذهب كلها للرواتب..و المخصصات ..و الأعطيات ؟ في العراق دولة ريعية ...يعتاش سكانها على موارد النفط وتقدم الدولة الأموال لمواطنيها على شكل رواتب وتقاعد من غير أن ينتجوا شيئا فعليا ..و نحن الدولة الريعية الوحيدة في العالم و التي مدنها بلا منظومات مجاري..ولا طرق معبدة ..ولا خدمات متطورة.. العراقي يحصل على الكهرباء والماء مجانا تقريبا و هذه من سمات الدولة الريعية ولكنه عمليا لا يحصل على كهرباء كافية ولا مياه نظيفة وهذا ما لا تجده في أية دولة ريعية بالعالم .. الخدمات الطبية و التعليمية مجانا من الناحية الرسمية..و لكن العراقي لا يحصل على نوعية جيدة من هذه الخدمات و هذه مفارقة أخرى في الدولة الريعية العراقية . العراقي يحصل على كل شيء بالمجان و لكنه في واقع الحال لا يحصل على أي شيء ذات قيمة ..و حتى هذا النزر اليسير مهدد بالإنقطاع إذا استمر المسار الريعي الحالي في سياسات الدولة العراقية. الكل من الساسة يغازل العامة و المحرومين و قطاعات الشعب العريضة بمزايا الدولة الريعية وعطاياها والناس تطالب بالمزيد وهذا من حقها بفعل محروميتها و حاجتها ولا أحد يتوقف في نصف الطريق ليتساءل ..إلى أين نحن سائرون ؟ الإشكالية الكبرى في طرح الموضوع للنقاش و التداول أن ما من أحد يجرؤ على مواجهة الرأي العام أو يقترب من إمتيازات الناس خصوصا في بلد يعيش ما يقارب من ربع سكانه تحت خط الفقر ، و أول رد يجابه به من يتجرأ على فعل ذلك هو...و ماذا عن إمتيازاتكم أنتم أيها الناس في البرج العالي ؟ بالطبع لا أحد يريد أن يغامر بسمعته و أن يوصف بأنه يريد حرمان الناس من إمتيازاتهم و التي هي بالكاد تكفي..و ما من أحد يريد أن يوصف بأنه (مناع للخير معتد أثيم) ولكن هل هذه هي كل القضية ؟ ساسة مرموقون دعوا إلى إعتماد (مبدأ توزيع الثروة على المواطنين) و أحد الكتل السياسية جعل ذلك عنوانا لمشروعه الوطني و بالطبع مثل هذه الطروحات جذابة للجمهور ، و إذا اردنا أن نتحدث نيابة عن هؤلاء و نحاول تفسير المنطق الذي يعتمدونه لقلنا أنهم يحاكمون الموضوع على النحو التالي : ( الدولة تعجز عن بناء قاعدة للإقتصاد و توفير الخدمات بشكل جيد و إذا كان الأمر على هذا النحو فليحصل المواطنون على المال بشكل مباشر و لتوزع عليهم عائدات النفط بطريقة أو بأخرى و هذا إستحقاقهم و هم بحاجة إليه..). مثل هذا المنطق ينطوي على مغالطات كبرى لا يمكن المرور عليها و تجاوزها فمن سيبني المستشفيات ؟ و من سيصلح شبكات الصرف الصحي المتهاوية؟ من سيشتري السلاح للدفاع عن أمن الدولة؟ و السؤال الأهم..من سيبني القاعدة الإنتاجية في الزراعة و الصناعة و التي ستوفر فرص العمل الحقيقة ؟. هنا أيضا سنضع أنفسنا محل أصحاب هذه النظرية و نزعم أنهم سيجيبون.. دع القطاع الخاص يقوم بذلك كله..سيتشكل تلقائيا قطاع خاص ينهض بهذه المهام نيابة عن الدولة. في الواقع لا يمكن قبول هذا الرد ببساطة إذ أن تجارب دول العالم الثالث تؤكد وبما لا يدع مجالا للشك أنه في غياب دولة فاعلة و قوية تتسم بالكفاءة و النزاهة لا يمكن نشوء و نهوض قطاع خاص يستطيع أن يعوض دور الدولة أو حتى يقوم بمهامه التقليدية. يخطئ من يظن أن القطاع الخاص في الدول المتقدمة بعيد تماما عن توجهات الدولة و رقابتها و ضوابطها و إيماءاتها..و الدولة التي تعجز عن بناء قطاع عام ناجح من باب الأولى أن لا تنجح في تحريك القطاع الخاص بها في الوجهة السليمة.. العلاقة بين القطاع الخاص والدولة استقرت في المجتمعات المزدهرة بعد طول مخاض ومن خلال تجربة حضارية شابها كثير من النجاح والفشل حتى انتهت إلى ما هي عليه و في ظل تراجع دور الدولة العراقية يصعب تخيل نشوء قطاع خاص ينهض ببناء الاقتصاد و توفير الخدمات . “مربط الفرس” إذن في موضوعنا هو ( كفاءة الدولة و نجاحها في بناء الاقتصاد و توفير الخدمات) و إذا كان هناك عجز أو تلكؤ في أداء الدولة فينبغي أن نتصدى لذلك و نعمل على علاجه و ليس البديل هو ( الدولة الريعية غير المنضبطة ) التي توزع المال يمينا و شمالا بلا ضابط. عندما تكون الدولة كفوءة و ناجحة لا تجد احدا يتحدث بطروحات الدولة الريعية أو يطالب بعطاياها و العكس صحيح عندما تتلكأ الدولة ، و لكن دعاة (الدولة الريعية) و ( المجتمع الريعي) يتبعون إستراتيجية (وداوني بالتي كانت هي الداء).. ماذا انتجت لنا (الدولة الريعية) في العراق ؟ لقد انتجت لنا إنسانا غير منتج و مجتمعا مصابا بالكسل و الخمول الكل يبحث فيه عن عطايا الدولة و وظائفها الحكومية و تتصارع فيه المحافظات و الإقليم مع المركز بحثا عن التخصيصات و الأموال دون أن تكون لديهم أية فكرة واضحة عن طريقة إنفاقها . مسارات الدولة الريعية في العراق واضحة و معرفة ..دولة مفلسة عاجزة عن تنفيذ المشاريع لأن كل موازنتها رواتب و عطايا و بطاقة تموينية.. مثل هذه الدولة لن يطول بها الزمن حتى تعجز الدولة عن دفع الرواتب و توفير البطاقة التموينية و هذا مسار حتمي حتى لو ارتفعت عائدات النفط. ( الدولة الكفوءة) و (التنمية الحقيقية) و (المجتمع المنتج) هي بدائل (الدولة الريعية) أو ما يسمى بدولة (الركوب المجاني) في العراق..و الدولة الريعية هي وصفة سريعة للخراب الإقتصادي و التراجع المعيشي و هي الدواء المسكن لمرض الاقتصاد العراقي العضال “”تدهور العملية الانتاجية””. كتبت سطوري هذه و أرجو أن لا اتعرض للرجم بالحجارة و أن أوصف بأني (مناع للخير معتد أثيم). و عجبي كل العجب أن يسير الاقتصاد العراقي بهذا المسار الخطير دون أن يقف أحد وخصوصا من النخبة السياسية و الاقتصادية ليقول ..يا أبناء وطني نحن نسير في طريق وعر وفي منحدر هابط فإحذروا . |