التشيع العربى لنبيل الحيدرى.. كتاب جرئ فى رؤية أكاديمية |
تبحرتُ في قراءة كتاب جديد يحمل عنوان (التشيع العربي والتشيع الفارسي)، صدر حديثاً في 2014عن دار الحكمة بلندن للباحث العراقي نبيل الحيدري.تضمن الكتاب مجموعة أبحاث واسعة ومتخصصة تناولت مسائل حساسة يصعب الخوض بها لأنها تتعلق بانحراف التشيع عن مبادئ الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وعن قيم أهل البيت وحركتهم الثقافية والفكرية والعقائديةوالاجتماعية والسياسية، وتحول الكثير من أبعادها إلى ثقافات مغايرة وطقوس غريبة وممارسات منسوبة بشكل خاطئ إلى التشيع العربي الصحيح وإلى الإمام علي وأئمة أهل البيت وهم بُراء من هذه الأمور. فالكتاب يبحث فى الأثر الفارسى الذى أدخل فى التشيع مختلف الإنحرافات الفكرية والإشكالات العقائدية والبدع على مرّ التاريخ منذ زمن الإمام علي، وأوائل تلك الظواهر الفارسية ومواقف الإمام المعارضة لها بشدة، وكذلك المراحل اللاحقة لأبنائه الأئمة الأبرار. غطى البحث الفرق الشيعية التي نشأت في العصور الأولى وزمن الأئمة وما بعدها، وأختلاف الرؤى العقائدية والأفكار المختلفة في تلك العصور ورؤيتها المتباينة للإمامة والإمام ومجالات تفرعها. وقد وضع الباحث يده على بداية الإنحراف وأساسه وتطوره، ومدى تعامل الأئمة معه ورفضهم لكل أنواع الغلو، مؤكداً ذلك من خلال رجوعه إلى المصادر الأولية الأصلية والمراجع التاريخية التي تشير إلى أن الكثير من هذه العقائد والأفكار والطقوس لم تكن موجودة في زمن الأئمة، وأنما أُسّستْ لاحقاً لأغراض سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة وتم تغليفها بإطار ديني لتضيف لها قدسية وروحانية تحرك مشاعر الناس نحوها من هذه المنطلقات. وتضمن الكتاب مجموعة كبيرة من المواضيع المهمة التي تشير إلى بدايات التشيع الفارسي منها، ظاهرة سلمان الفارسي والروايات الغريبة المليئة بالخرافات التي تنافى القرآن الكريم وروحه ومبادئه كلياً. وظاهرة عبدالله بن سبأ والغلو في الإمام علي إلى درجة الربوبية والطعن بالخلفاء الراشدين. وأشار الباحث إلى البعض ممن غالوا بدرجة كبيرة في أئمة أهل البيت وإلى حركة الغلو الفارسية أيام الدولة العباسية والدولة البويهية والدولة العبيدية الفاطمية والدولة الصفوية ومدى تحالف الوعاظ مع السلاطين، وكذلك تناول اشكالية التوحيد والقرآن والنبوة في التشيع الفارسي ودرجة الغلو. وتمكن من تسليط الضوء على بعض المحطات الحساسة التي تتعلق بموضوع التقية في التشيع الفارسي ولقاء المهدي المنتظر في ادعاءات التشيع الفارسي، وإلى ثقافة التكفير والبغضاء واللعن في التشيع الفارسي. وتطرق إلى الكثير من المواضيع المهمة التي تدور في هذا الإطار، ولكنه توسع في موضوع الخميني وولاية الفقيه، وتُوج بحثه بمقارنة بين المرجعية العربية والمرجعية الفارسية. فالبحث عبارة عن قراءة موضوعية لباحث تمرس العمل الأكاديمي وعاش فترة طويلة في كنف المؤسسة الدينية الشيعية، لذا يؤكد بأن إثارته لهذا الموضوع الحساس هو لإزالة اللبس وتوضيح مفاهيم مهمة تعمل على تجسير الكثير من الهفوات والمآخذ على مسألة التشيع العربي، لاسيما أن الأديان السماوية والمذاهب المتفرعة منها، قد مرّت بهذا المخاض الكبير بمختلف المراحل الزمنية، وتعرض الكثير من المفكرين والباحثين لمختلف أشكال النقد والقذف لمجرد ابداءهم رأياً يُعد مخالفا لهذه الطائفة أو تلك. إن ما يطرحه الحيدري في كتابه، أصبح اليوم من الأشياء المتداولة في أحاديث الكثير من الناس، ويحوي الكثير من الأمور التي بالتأكيد ستثير حفيظة الكثير ممن لديهم قناعة راسخة غير قابلة لتقبل مفاهيم جديدة في حقيقتها تصب في مجرى التقارب إذا نُظِر إليها بعين ايجابية. وتناول الحيدري بعمق دور التأثير الفارسي على التشيع وانحرافه من خلال ما ذكرته المصادر عبر المراحل الزمنية المختلفة، لاسيما الفرس الذين تشيعوا في الكوفة يحملون تراثاً في تقديس الملوك ووضع ألقاب الإله عليهم، حيث أصبح ملك الفرس في نظرهم بمصاف الآلهة، وبعد أن تبنوا التشيع نقلوا ثقافتهم معهم، وأدخلوا تلك الهالة، أي أخذوا صفات التقديس لملوكهم وأدخلوها في التشيع، فتحول الأمر إلى تقديس الأئمة إلى درجة الغلو، ثم الطعن بأي مخالف لهم. واستمر هذا التأثير الفارسي في كل المراحل التاريخية من الدولة البويهية ثم الدولة الصفوية وحتى عصرنا الراهن الذي لا يخلو من التأثير المباشر للمرجعيات الفارسية. يرى الحيدري بأن هذه المتغيرات لم تأتِ بين ليلة وضحاها، وإنما مرت بمراحل تأريخية كثيرة، مؤكداً بأن مسألة التحريف قد بدأت منذ وقت طويل بدرجات متباينة، وتعززت في عهد الدولة البويهية، وليس كما يذكر البعض من الباحثين بأنها قد بدأت مع الدولة الصفوية، لذا يتطلب من الباحثين والمهتمين بهذه الأمور التوقف عندها ومعرفة حقيقة وطبيعة التحريف والتزييف في تلك الحقائق والقيم، لأن الوصول إلى الحقيقة يزيل الكثير من الغموض والسلبيات التي تعاني منها الأمة بشكل سلبي، وتفتح الطريق أمام الكثير من الباحثين في التعمق في هذه المجالات دون حرج لغرض وضع الأمور في إطارها الحقيقي. وذكر الباحث في أكثر من موضع بأنه لم يقصد الإساءة إلى الشعب الإيراني أو الفارسي، بل هو يحترم الشعب الايراني وتاريخه الزاخرين بالثقافة والفكر والأدب والفن والإبداع، فهو يمدح أشخاصاً ورموزاً منهم: (على شريعتي ومرتضى مطهري وعبدالكريم سروش وجلال آل أحمد ومحسن كديور وغيرهم)، ولكنه تناول تأثير رموز معينة ومحدودة لهم دورهم وتأثيرهم على السلطتين السياسية والدينية في الانحراف الشيعي، لاسيما خلال مرحلة الدولة البويهية الفارسية(946– 1055م)، التي جرى فيها تحالف السلطة الدينية التي مثلها من الفرس كل من (الكليني والقمي والطوسي)مع سلطة الحكومة (كوعاظ للسلاطين)، نتج عن ذلك التحالف اصدار أربعة كتب: (الكافى ومن لايحضره الفقيه والإستبصار وتهذيب الأحكام)، تحمل الكثير من الانحرافات والبدع والكثير من الطقوس الفارسية التي اقحمت في الفكر والتراث والدين والعقيدة الشيعية، فيها الكثير من الغلو للأئمة، فأصبحت مراجع أعلى للحديث لكل من جاء بعدهم، تحمل أبعاداً غريبة ترتب عليها تكفير الآخر المختلف. وأشار الباحث إلى دور البعض من الفقهاء العرب من أمثال (محسن الأمين العاملي ومحمد رضا المظفر ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد جواد مغنية وهاشم معروف الحسني ومهدى الحيدرى) وكذلك محاولات البعض من الباحثين في مجال علم الاجتماع من أمثال (د.علي الوردي في كتابيه – وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري، ومحاولة د.إبراهيم الحيدري في كتابه – تراجيديا كربلاء، ود. جواد علي في كتابه – المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية)، في عملية اصلاح تلك الانحرافات، ولكنهم واجهوا مراكز القرار والسلطة والنفوذ، وقد اتهم بعضهم بشتى التهم لغرض افشال مشاريعهم الاصلاحية. وبعد أن حلت الدولة الصفوية (1501– 1736م)، توسع دورها بشكل كبير في انحراف التشيع العربي وتأسيس التشيع الفارسي، لاسيما في زمن سطوتها آبان عهد الشاه إسماعيل حيدر الصفوي (1478– 1524م)، الذي جمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، وقد أحاط به العديد من وعاظ السلاطين، من أمثال المجلسي صاحب البحار، الذين أسهموا في إلغاء الآخر المختلف، وفي تحويل إيران إلى التشيع الفارسي، بأساليب قهرية لتكون في مواجهة الدولة العثمانية السنية.كان التشيع الفارسي مبني على مفاهيم خاطئة، لا تخلو من البغضاء والأحقاد والتكفير والسباب للخلفاء الراشدين وزوجات الرسول(ص)، لاسيما عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر.واعتبار من لا يؤمن بالولاية هم أولاد زنا غير شرعيين وغيرها من الأمور التي لم تعد مقبولة الآن بعد أن توسعت دائرة المعارف. ولم يغفل الباحث دور بعض الفقهاء من العرب في انحيازهم إلى التشيع الفارسي، بعضهم ندم وعاد متحمساً للعروبة والوطنية، وبعضهم من استقر في الدولة الصفوية في ايران واستفاد منها كثيراً، وحصل على مالم يحلم به من مناصب ومكاسب وسلطات دنيوية كالكركي والبهائي من لبنان. وهناك من الفرس والأتراك من وقف بالضد من الدولة الصفوية وحكومتها وفسادها وعقائدها وانحرافها، وانحاز إلى مسيرة الإمام علي(ع) ومبادئه مثل: (علي شريعتي ومحمد تقي القمي ومحمد صالح المازندراني وإبراهيم جناتي والمقفع وجلال آل أحمد وعبدالكريم سروش وغيرهم). وهنا ينبغي التمييز بين رموز التحريف وبين عموم أبناء الشعب الايراني المحترم. ما يعزز من قيمة البحث استناده على الكثير من المصادر الشيعية الأساسية وحتى المخطوطة منها التي اسهمت في أمور التحقيق والتدقيق، وكذلك اعتمد الباحث على المصادر الأخرى كالمعتزلة والزيدية والإسماعيلية والأشعرية والسنية المختلفة، ولم يغفل مساهمات الكثير من المستشرقين الذين تناولوا جوانب من تلك الأبحاث، مثل: (برنارد لويس، يوليوس فلهوزن، وفريدليندر، وكاتياني، ودوزي وسنر وسبنسر ووانسبرو ووارنر وواط وغيرهم). وقد انتقد الحيدري طريقة الاعتماد على النقل الخارجي والأخبار غير الموثوقة المرسلة بدون مراجعة المصادر الشيعية المعتمدة نفسها، والحقيقة تقال بأنه ما أكثر النقل عن السماع وما أقل التحقيق والتدقيق والموضوعية والحيادية. وقد أكد الحيدري على وجود حالة اختراق في المذهب الشيعي تناولها بأكثر من موضع، ودعا إلى ضرورة التدقيق والتحقيق في الروايات والأحاديث المدسوسة المنتشرة التي تحمل بين طياتها ثقافة مرفوضة ديناً وعقلاً، ثقافة مليئة بالأحقاد والكراهية ضد الخلفاء الراشدين واتباعهم وغيرهم من الرموز الإسلامية. ولكن يبقى الهدف السامي من أي بحث هو الوقوف على حقيقة الأمور، ومعالجة الأخطاء وتصحيح المسار، ومن لدية موقف مغاير أن يتخذ طريق العلم والحجة بالحجة وليس بالسباب والكراهية والمواقف المسبقة. وإن التقارب الحقيقي ينبع من تنقيح التراث ومعرفة كيفية تجاوز وتخطي أسباب الغلو والتكفير لغرض الوصول إلى ثقافة تحمل معاني السلام والمحبة والتسامح، لأن العلة منا وفينا وعلينا تشخيصها وعلاجها. حقيقة استفدتُ كثيراً من معطيات البحث لكونه يعتمد على منهج أكاديمي واضح، وجهد كبير في البحث عن الحقيقة من خلال التحليل العلمي للأحداث، واستشهاده بكثير من أقوال الأئمة من أهل البيت الذين رفضوا الغلو الذي يعارض القرآن الكريم وسيرة الرسول وروح الدين والعقل السليم. ومن الأمور المهمة وقوف الكاتب بالضد من كل أنواع الفتاوى التكفيرية ضد الآخر المختلف. وبالإضافة إلى ذلك الحيادية التي التزم بها الباحث باعتماده على مجموعة كبيرة من المصادر التي بلغت أكثر من ألف ومائتي مصدر ومرجع، أهمها أمهات الكتب الشيعية الأصلية التي استشهد بها الكاتب سواء كانت تقف بالضد أو مع أي موضوع يتطرق إليه، مهما كانت درجة الحساسية فيه. وهنا لابد من القول بأن هذا الكتاب بالتأكيد سوف ينال الكثير من النقد والتعليق، سلباً وايجاباً، لأهميته، وكونه قد تفرد في طرح الكثير من الأمور الجدلية الحساسة التي يتجنبها أي باحث. لذا أدعو كل من يقرأ هذا الكتاب أن يلتزم الحيادية وأن يُبرز الجانب الأكاديمي للبحث لكي تعم الفائدة، لأن الغلو سواء كان في المدح أو الذم يصب في مجرى التطرف، والموقف الشخصي المسبق من الباحث لا يخدم عملية التواصل بالحوار، وبالتالي تنعدم فائدة التقييم الأكاديمي. فمن الضروري أن ينصب الاهتمام بمحتوى الكتاب، لأنه أصبح الآن في الأسواق، شئنا أم أبينا، فهو متاح وفي متناول أيدي الكثير من الباحثين والقراء، وفي تقديري، الرد على الباحث في الأمور التي يراها الغير مخالفة يجب أن يأخذ المجرى الأكاديمي والحضاري المدعوم بالوثائق والمصادر والمعزز بالآراء المنطقية. وبهذا نؤسس ونبني لثقافة مهمة جداً في كيفية تقبل الآخر المختلف. أتذكر جيداً الحدث الذي تعرض له الحيدري أثناء مقابلة له مع قناة البغدادية الفضائية، عندما حصل موقف متشنج من الاعلامي الذي كان يحاوره لمجرد أنه أبدى رأياً مخالفاً، اعتبره المحاور خطاً أحمر، في اعتقادي، لو أن المحاور استرسل معه بالحوار والرد الحضاري المبني على الوقائع والأدلة، لتفادى الإحراج، وبالتأكيد لكانت النتائج أفضل لكل الأطراف وخاصة جموع المشاهدين الذين بحاجة إلى هكذا نوع من الحوار الثقافي الذي تتضح فيه الكثير من الأمور الملتبسه. لقد ذكر الحيدري محاولات جادة للتقريب بين السنة والشيعة مثل مؤتمر نادر شاه الذى عقد فى 11 كانون الأول عام 1734 بين عشرات العلماء من السنة والشيعة الذين وقّعوا على وثيقة هامة فى تحريم التكفير للخلفاء الراشدين وإزالة بدع الشاه إسماعيل الصفوى. وبهذا استشف من خلال مجرى البحث بأن الكاتب يعمل على تأسيس مشروع اصلاحي برؤية موضوعية يعالج فيها الإشكالات الفكرية والعقائدية والتاريخية والدينية التي تفرق بين الشيعة والسنة، وهذا بحد ذاته يعد مشروعاً كبيراً لتخطي النهج الطائفي المرير السائد في مجتمعنا، لاسيما بعد أن يتم الوقوف على حقيقة الأسباب المثيرة للعداء والكراهية ومن يقف وراءها. وهذا ما أكده الباحث بين ثنايا بحثه بأن التشيع العربي يلتقي مع التسنن المحمدي في الأصول الإسلامية وأركان الدين الحنيف والمبادئ القرآنية، كما يحترم مكانة الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين أزواج الرسول الكريم (ص)، ويؤمن بثقافة المحبة والتسامح والتعايش والتعاون. وهذا ما يدل على أن هناك الكثير من المشتركات التي يمكن العمل عليها لتفادي الكثير من الإشكالات. |