إذا كنت أنسب لنفسي ، متواضعاً ، ثقافة إسلامية بدأتها منذ صباي الباكر ، فلقد كنت دائم السؤال بعد كلّ كتاب أنتهي من قراءته في السيرة النبوية : إذا كان مُحمّد صلى الله عليه وسلم آخر أنبياء الله في الأرض ، وكنّا نعرف أن أنبياء الله جميعاً مسلمون .. فكيف يسبقونه بالإسلام ، ويكون هو أوّل المسلمين ؟!. كنت دائم السؤال عن حكمة الله تعالى أن يسلب آخر أنبيائه حنان الأمّ ، ويحرمه عطف الأب ورفقه ، ويبقيه فرداً وحيداً دون رعاية الجدّ ؟!. هل كان تعالى يريد بهاتيك المقدمات والمداخل أن يصطفي آخر أنبيائه ويجتبيه ، فيمنحه الحبّ والمودة والعطف والحنان والحفاوة والتكريم من لدنه وحده ، ويحرسه من المخاوف ، ويتعّهده بالرحمة والمحبّة والطمأنينة ؟!. أكان الله سبحانه يريد أن يحرمه من الحنان البشري ، ومن الحبّ البشري ، ومن العطف البشري ، ومن الرعاية البشرية .. ليؤثره بالحنان الإلهي ، والحبّ الإلهي ، والعطف الإلهي ، ويرعاه الرعاية الإلهية ؟!. ونحن جميعاً نعرف أنه في أيّ حبّ بشريّ ، يمكن أن يضعف الحبيب في لحظة ، فيخون ويغدر ويهجر ، وتذهب نفسه حسرات .. غير أن الحبّ الإلهي يسمو على احتمالات الغدر والهجر والخصام والخيانة ، فهو الحبّ الصادق الباقي الذي لا يفنى ، ولا يتلاشى ، ولا يخيب . إنه حبّ القداسة الأريحيّة البريء ، ذلك الحبّ العلويّ النبيل الفؤاد الصاعد من الأعماق إلى الآفاق بالهواتف والأشواق ، الذي تسمو تكاليفه فوق طاقات البشر ، لا يضعف مع الزمان ، ولا ينحل ، ولا يخسر ، ولا يذوي .. ففي هذا الحبّ تستجيش الإنسانية كلها وترتفع إلى الملأ الأعلى .. لا ذلك الحبّ البشريّ المكروه ، المملول ، المرذول ، المشوب ، القاسي ، المستعار ، الخامل ، الذي تتداخل فيه اللذائذ والغايات والظلال والألوان . أرأيتم مثل هذا الحبّ عندما يكون درعاً تتكسّر عليه النصال على النصال ، فيختصر المسافات والنواميس والعوالم والأبعاد والمجرّات والفصول والخيال والزمان ؟!. ولقد وجدنا في قصص الأنبياء نبيّاً يندفع في حبّ الله ، فيسأله : ( ربّ أرني أنظر إليك ) ، فيردّ الله على موسى عليه السلام باستحالة الرؤية .. أمّا النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم فلم يكن ليسأل ربّه في المناجاة الطويلة ، معجزة من المعجزات ، أو خارقة من الخوارق ، ولم يكن يبحث عن طمأنينة قلبه ، إنما كان يقابل الإيذاء بغير مبالاة ، ويلتمس ربّه في أشدّ مواقف الأذى في ليل دامس ، فيناجيه : ( إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ) ، وكان ( إذا حزّ به أمر صلّى ) . روى ابن سعد في الطبقات ( قال خالد بن سعيد : رأيت في المنام قبل مبعث النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم ظلمة غشيت مكة ، حتى ما أرى جبلاً ولا سهلاً ، ثم رأيت نوراً خرج من زمزم مثل ضوء المصباح ، كلما ارتفع عظم وسطع ، حتى ارتفع فأضاء لي أول ما أضاء البيت ، حتى عظم الضوء حتى ما بقي من سهل ولا جبل إلا وأنا أراه ، ثم سطع في السماء ، ثم انحدر حتى أضاء لي نخل يثرب فيها البسر ، وسمعت قائلاً يقول في الضوء : سبحانه سبحانه ) !. في مولده صلى الله عليه وسلم ، أقبل الصبح مشرقاً بضوئه النقيّ وسط ظلام متكاثف قاتم ، وألقت السماء على الأرض رداءً من نور في دنيا غريبة موحشة ، وعالم حائر باحث عن وازع من ضمير ، يتحرّق شوقاً إلى النهار .. فمن شاء فليشك ، ومن شاء فليستيقن .
|