في الشلفة كما في كلِّ قرى مسيعيدة، يمتهن الناسُ الحزنَ، يجاورونه، يحاورونه.. الحزن سيّد لأنه يوهنُ الوهمَ الكبير الذي يعترش قلوب الناس كشجرة حلبلاب، فيغنون انتشاءً بفعل خمرِ الحزن المعتّق ونبيذه.. يُسكرهم حزنهم الذي يعرفون الطريق إلى جذوته منذ ألفوا موتَ الآلهة. يمضغ الرعاةُ في الشلفة حزنهم حين تنفد مؤونتهم وهم يحدّقون في عيون مواشيهم، وتحيله النساء إلى نعي وهن متشحات بالسواد، ينشرن شعورهن المنقوعة بالنفط تحت الشمس. ويستعيذ أطفال مسيعيدة والشلفة بالحزن من شرّ العتمة التي تحلُّ سريعًا قبل أن يوقد الكبار "البْطالة". وتقدّم المراهقاتُ الصغيراتُ الحزن على نزواتهن المباغتة الغريبة حين تمرّ أصابعهن على نتوءات نهودهن البرعميّة. "يا هي .. يا هي.. يا هيييييه" بدايةٌ مألوفةٌ وشائعة لنشيج تعرفه الشلفة جيدًا، فهو الأذان بأن حزنًا باذخًا في سبيله إلى القطاف في موسم الدمع حين تزفرُ حنجرةُ حزينٍ ما، يسيّر مشحوفه وحيدًا في نهره العاجّ بالبني النافدِ الصبرِ وهو يواصل رحلته الطويلة إلى الهور. لا يأخذنك الشغف بـ"يا هي" هذه، لا تبح لشعر جلدك أن يقف كمسامير صغيرة ناتئة عند كلِّ "يا هي"، فأنت بهذا كمن يشظّي قلبه بسكاكين الفجائع ومناجلها. انتظرْ، ثمة "يا هي" أخرى قادمة، ستُخرسُ بحزنها الفائض النشيجَ الأول، فالبقاء في الشلفة للحزن الأكثر غورًا، والأكثر إيلامًا واستدرارًا للدمع. حاذرْ من حزن الشلفة أن يقبض على قلبك ويحيله إلى رماد. انتبه لحواسك.. أقم للذاكرة أسيجةً، حصّنها بقلاعِ السلوى العالية كي لا تموت غمًّا. لا تطل النظرَ إلى وجوم البواري وهي تتقوّس فوق شِباب المضايف الشاحبة والبيوت المهلهلة الكالحة. لا تسترقّ السمعَ لهمسِ شجيراتِ العاكَول والطَحَمة المتمايلة بفعل ريح تجلدها بسوط السخونة في تموز. سدّ منخريك كي لا تشمَّ الرائحةَ التي يطلقها صوف الأغنام حديثة الولادة، ولا رائحة قدور الروبة المتسلّلة من تحت "مجفايات" ثقيلة.. لا تمدّ يدك في الماء، ولا تلمس خدود "الدّبيس"، إياكَ أن يلامس خدك الطين الحريّ، ففي ذلك انمساخٌ مجانيّ لروحك، وتعريةٌ مقصودة لها، فيجلببك حزنُ مسيعيدة بجلبابه، ولن تستطيع خلعه ما حييت. إياكَ أن تدنو من مضيف السيّد كاظم عند الغروب. إياك أن تحدّق في نور الفانوس الباهت. ابتعدْ عنه بقدر ما لساقيك من قدرة على الجري، ففيه روحٌ معذّبةٌ تحومُ ما أن تسلّم الشمسُ زمامَ سخونتها للهور عند الغروب حتى الفجر.. روحٌ تتلبّس الغافلين المارّين على شط الشلفة قرب المضيف.. قد تتمثّل لهم في صورةِ أنثى جميلةٍ نصف عاريةٍ تدّعي الغرقَ، وحين تنزل لإنقاذها تسحلك على وجه الماء لمسافات طويلة، تفقدُ فيها قدرتك على تعيين اتجاهك، لينتهي بك الأمرُ إلى "حفيظ"، لتغدو واحدًا من الجنّ الحامين لديمومة الحزن المحدق ببهجة الناس، والمطوّق لأفراحهم. سأقصُّ عليك حكايةَ اللعنةِ التي حلّت بالمضيف وبأعشاش العصافير في خبايا شِبابه. عند أول "يا هي" زفرتها حنجرةُ السيّد محمّد بن السيّد كاظم بن السيد عكَلة النوري، تمايلتْ سنابلُ القمح الذهبيّة طربًا. كان وحده وسط حقول الحنطة، ولو كان يعلم أن صوته سيتناهى إلى مسمع أبيه لآثر الخرس. كان السيّد كاظم حينها عند باب المضيف يهيّئ القهوة لضيوفه. توقّف عن الدّقّ في هاونه الكبير، أصغى جيدًا. لم يستطع إخفاء شغفه بالصوت الآسر الذي أحاله إلى صنم. حين كفّتْ الريح عن التحليق بالأنين العذب القادم من بعيد قال السيد لضيوفه: ـ كزبر جلدي. مَن هذا؟ ــــ ـــــ ــــــ ضغط السيّد كاظم على صدغيه بقوّة وقد عصبَ رأسه بشطفة والده السوداء، فقد كان الصداع شديدًا. وكان يتمتمَ بدعاء للشفاء حين دخل عليه أحدهم. جلسَ قريبًا جدًا منه. قال بما يشبه الهمس: ـ أتعلم يا سيّد أن ابنك السيّد محمّد يغني؟ برغم الألم الذي كاد يفطر رأسه، ندّتْ عنه أنّةٌ ثقيلةٌ مباغتةٌ، صفعَ فخذَه وقال: ـ أنا غلام سيّد نور. شعرَ السيّد كأنّ فالاتٍ حادّة تطعن رأسه. في الليل، بعد أن أدّى السيّد صلاتي المغرب والعشاء من جلوسٍ لأن رأسه يختضُّ كبيضةٍ فاسدةٍ، طلبَ رؤية ابنه. وحين حضر قال له اجلسْ هنا قريبًا مني. وأكمل: ـ رأسي يؤلمني، كأنّ كلابًا شرسة تتعارك فيه.. أحلفك ببخت جدّك سيّد عكَلة غنِّ لي.. لا تبخل عليّ بصوتك الذي سيطيّبني. شمّ السيّد محمّد رائحة الفخّ في طلبِ أبيه الغريب، غير انه اعتزم الغناء. نظر عبر باب المضيف، تأمل ماء الشلفة المنحدر سريعًا نحو الهور. كانت مويجاته تتلاصف بأضواء "البْطالة" المعلقةِ قريبًا من سقوفِ البيوت المتراصّة على الضفة الأخرى. كان ينظر كما لو انه يبحث في جريان الماء عن شيء يفتقده. ثم أباح لسُحبه أن تعلو.. سحبُ حزنٍ لها ثقل الرصاص وشفافية ماء الهور، حامت في فضاء المضيف الخالي إلاّ منه وأبيه، ثم أمطرتْ صداحًا عاليًا كأنه خلاصة الوجع، رَسَبَ في قاع الروح. لم يستهل غناءه بـ"يا هي" كعادته، بل بـ"آه" متعرّجة ممتدّة على طول زفيرٍ كشهيق المحتضر. وضع يده على رأس أبيه المغمض العينين وصاح: يا طارش خذ كتابي وياك.. مرّه على الكَلتْ حلاته وكثر مرّه الكَلب بجفاه ما يرتاح مرّه ولا ليلة تغمض جفون اليه أنهى نزفَ أبوذيته.. نظرَ إلى عيني والده، فهالته غزارةُ دمعهما المنحدر إلى المخدّة. ومع هذا أعدّ السيّد عدّته لغضب أبيه، غضب للبخت والحناء التي تسمُ مَقْدم المضيف، ولتاريخٍ للكرمِ والفضيلة حلّ هنا ومكثَ طويلًا. تاريخ سلالات من "الشارة" التي يضعها السادّة في اليد. صمتَ قليلًا، ثم واصل اعتصار دم قلبه لينزفه ببستةٍ أودعها قلقه وهواجسه وسهمًا كبيرًا من حزن مسيعيدة الراسخ فيه: الكَلب عيب يتوب كلمن وطبعه واحد يجي للنار ويغل اصبعه بطريقة ما، تسلّل إلى قلب السيّد محمّد إحساس بأنه لن يغني هنا في الشلفة بعد اليوم، فليقلْ لها كلَّ شيء إذن، عليه أن يودّعها. كيف يمكن لمغنٍ توديع مكانٍ ولد فيه ولا يعرف غيره؟ في الفضاء المحيط بالمضيف كانت الأبقار قد توقّفت عن الاجترار هي تصارع دهشتها وانسحارها بصوت كأنه نواح الملائكة، وسكنت الطيور، وكفّت النسوةُ عن الحديث وقد دنين من ماء الشلفة حتى لامسنه.. فتح السيّد كاظم عينيه وسأل ابنه بهدوء لا يناسب ثورته القادمة: ـ ما الذي يجبرك على النار؟ لماذا تغلّ إصبعك فيها طائعًا؟ أكمل ورأسه يغادر المخدة: ـ حتى هذه اللحظة لم أكن أصدّق أنك تغني.. والآن اسمعني جيدًا. بويه، هذا مضيف سيّد نور، ونحن سادة. أمامك خياران: أما أن تعاهدني على ألاّ تغني بعد الساعة، وإن رفضتَ فلا مكان لك هنا. امش. أطرق السيّد محمّد، صَمتَ كالأموات ويده تعبث بطرف شطفته. ما أن أنهى السيّد كاظم تخييره حتى نهض، وقال بصوتٍ سمعته بيوت الضفة الأخرى: ـ بويه، سايمين الله ومحمّد وعلي عليك امش، لا أنت ابني ولا أنا أبوك. ومشكول الذمة إن حضرتَ جنازتي. فتح السيّد محمد بوابات ذاكرته وأتخمها بصورٍ يعرف انه لن يراها مرّة أخرى، صور للشطِّ المنحدر نحو الشمس وهي تسلّم في الهور، وأبواب البيوت التي تتراقص نيرانُ مواقدها، وحظائر الأبقار والغنم. قبَضَ على الرائحة التي سيستبدلها مضطرًا بروائح المدن العطنة.. شحَذَ حواسه لتمسك بالأشياء والوجوه وكلِّ ما يحيطه. وفي لحظة الانفصال، لحظة قطع الحبل السريّ مع الشلفة، صاحت ططوةٌ بحدّة. لم يكن السيّد محمّد ليشكّ في عتمةِ أيامه القادمة، لذا لم يعرها انتباهًا.. سار مع الضفّة نحو الشمال، محاطًا بكلاب مزمجرةٍ بنباحٍ مسعور، وكانت آذانها تتهدّل قبل قليل وترتخي أبوازها حتى تلامس الأرضَ وهي تستمع لغنائه كأنها تعي ما يقول، ومتبوعاً بلعائن السادة المتماهية مع صفير ريح اشتدت فجأة. لِم لم يتمهّل السيّد كاظم في حكمه القاسي؟ لِم لم يعطِ ابنه فرصةً حتى الصباح؟ لِم بكى وهو يستمع لغناء ابنه؟ وحين قرّر طرده في تلك الليلة، لِم لم يمهله حتى يستبدل عقاله؟ لِم لم يستفد من الفرصةِ التي منحتها الططوة المنذرة بالسوء؟ لقد استفادت الجنّ من تناقض السيّد كاظم، ألم يبكِ وهو يتلقّى سيول الصوتِ الآسر بقلبِ أعزل كما لم يفعل من قبل؟ ألم يبح لابنه الغناء في المضيف ذي الشِباب المخضّبة بحناء الفضيلة؟ فلِم نبذه منه بعدها؟ ألم يجلس السيّد كاظم في مقهى في قلب العمارة لا لشيء إلاّ لأن بكرةَ المسجّل الألماني الكبير كانت تدور ويدور معها صوتُ ابنه محمّد؟ فإن كان مستبشعًا ما يفعل فلم اختلط دمعه بالشاي في الاستكان؟ ولم شعرَ حينها أنه لم ينجب سواه؟ أسئلة كثيرة أخرى علقتْ بقصب المضيف وتشبثتْ به كقراد الخيلِ، عَجزَ السيّد كاظم عن الإجابة عنها بغير الدمع الذي يسكبه في خلواته في المضيف، استفادت منها الجنّ لتعلن لعنتها على الشلفة ومسيعيدة، ولتكتب طالعهما بمدادها القيري الثخين.. كتبتْ: الحزنُ نصيبُ مسيعيدة وقراها. حزن مكتمل، لا بهجة بعده. ـــــ ــــــ ــــــ كمن يطير بجناحٍ واحدٍ حلّق السيّد محمّد في سماء مكفهرة، ثقيلة الهواء.. دمه يعطبُ في بغداد قطرةً قطرةً، ذلك لأن الذاكرة فيها لم تمنحه ما يعدل به توقه إلى الشلفة والحنين إليها. لم يعد يملك غير صوتِه سلاحًا يردُّ به عن نفسه شراسةَ الوحشةِ الناهشةِ في مدن لا تشبه الشلفة ولا تعرفُ جرس إيقاعها الحاني. ثمة سلاح آخر، كالذي يستخدمه الساموراي حين يقرّرون إيقاف مهزلة الحياة، سلاح لا يتجه نصله إلاّ لقلب صاحبه. ذلك هو الخمر الذي حاول السيّد تسكين انكساره واغترابه به. ينهلُ منه فلا يزداد إلاّ ظمأً إليه.. النهايات حادّة، نصليّة قاطعة في حياة السيّد محمّد، فمن غناء في مضيف والده، أحاله إلى ركام في المدن المكتظة، إلى نهايات يوميّة متلاحقة. لا يضع رأسه المثقل بالهموم والخمر في ساعات متأخّرة من الليل حتى ينتابه إحساس أنها آخر إغفاءة له. وهذا ما حصل.. ففي ساعةٍ متأخرةٍ جدًا من ليلية أيلوليّة من عام 1973 نام السيّد.. ثمة أبوذيّة عصيّة فكّر بإتمامها، عالجها، قلّبها، عرضها على حزنه المتجذّر.. غفا على أمل أن يتمّها صباحًا.. غير انه أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة على شطرها الأول فقط. وهكذا بقيت الأبوذية كبابٍ مواربٍ يطلُّ على فردوسٍ حلم بها طويلاً، لا هو بالمغلق ولا بالمفتوح.. يقول الشطر الذي لم ينجز سواه: يا كَلبي سهمك بدنياك بسوين آزروا السيّد محمّد وأتمّوا أبوذيته.. |