زعيمنا....

لا يولد احد زعيماً انما هي صناعة اجتماعية بإمتياز. فالمجتمع قادر على خلق الزعامات مثلما صنع العشرات من الآلهة. لقد خلقنا الآلهة وخلقنا معها تاريخ من العبودية. باستطاعتنا ايضاً خلق النخب ومنها الزعامات بفعل التقديس الذي نمتهنه.

يقول عالم الاجتماع البارز إيميل دوركايم اننا كمجتمع ان احببنا شخصاً ما سنبدع في الصاق القداسات به وسنحوّله الى رمز متعالي ، ومع الاصرار على اهلّيته ورمزيته سيعتقد هذا الشخص بالفعل انه شيء مميز ولا ينتمي الى العوام ابداً. سيتعوّد يوماً بعد يوم على مكانته الجديدة في المجتمع ، سيستريح معها ويقاتل عليها. انه فريد ، انه مميّز ، هكذا صنع منه المجتمع.١

خبراء التربية يعتقدون بنجاح هذه الطريقة مع الاطفال ايضاً ، ان اردت لطفلك ان يكون قوي الشخصية واثقاً من نفسه فما عليك سوى تدريبه على هذا. هي اشياء تُدَرَّب بالسماع والتكرار. استمر في اطلاق الصفات الجيدة عليه ، قل له انت جيد ، انت عبقري ، انت مميّز. سيعتقد بأنه هكذا بالفعل وسيقاتل عليها مستقبلاً. لا يتنازل بسهولة عن هذا الموقع الاجتماعي الذي لم يصل اليه بكفائته بل من خلال فعل التقديس او التلقين الناشىء من ممارسة عائلية او اجتماعية.

هكذا تتم صناعة النخبة ، ففي الولايات المتحدة الامريكية تستعمل بعض المدارس الارستقراطية هكذا وسيلة لخلق جيل الزعامة القادم. مدرسة اغنياء مثل اعدادية سانت بولس في كونكورد التابعة لولاية نيوهامشر والتي ينتمي لها طلبة الطبقة السياسية وابناء النخبة الرأسمالية تتبع بيداغوجيا مختلفة في تربية وتعليم طلبتها ، لا تركّز فيها على ما يتعلم الطالب ، بل كيف يتعلمه.
يتم هذا من خلال التركيز على تذكيره بقدراته الفذة. تكرار ترنيمة "انت فريد ، انت مميّز" التي تشعره بالخجل امام نفسه فيتعلم ما يريد الاستاذ منه بسهولة اكثر. ومع وجبات من الاتكيت الارستقراطي في سماع الاوبرا وحضور الباليه وممارسة الرسم بطريقة الحداثة المجنونة يتشكل افق النخبة في خياله ليلتحق بعالم آخر بعيد عن عوالم الطبقات الاخرى.

انه امتياز اجتماعي سيساعده في التغلب على صعوبات المستقبل لا بكفائته بل بإنفراج الناس من امامه وفسحهم الطريق له كزعيم جاء لهم بالمعرفة والثقافة. ليس زعيماً ولا يختلف عنا في شيء ، لكنها سانت بولس وبيداغوجيتها التي تزرع عنده فكرة الزعيم ، ثم نأتي نحن بممارستنا للأسطرة المفضوحة ونجعل منه زعيماً اسطورياً بحق. لقد كتب المجتمع قصته جيداً واخرجها بحرفة ، انه الزعيم.

يقول شمس رحمن خان السيسيولوجي الامريكي الجنسية الباكستاني الاصل في كتابه الامتياز Privilege من انه وبعد معايشته لسنة كاملة في سانت بولس لم يجد فناً اصيلاً لهؤلاء الفتية بل كانت فنون رثة لا قيمة لها ، اما موسيقاهم فلم تكن محترفة ابداً. لم يحسن هؤلاء الطلبة الرسم والموسيقى والتمثيل واشياء اخرى بل كانوا عاديين جداً ، ممثلون رائعون لثقافة ارستقراطية تربّوا عليها في بيوتهم ورسّختها فيهم مدرستهم. انه الامتياز الوحيد الذي يمتلكونه في حياتهم لكنهم لا يعتقدون بأنفسهم هكذا. انهم يعتقدون بأنهم اذكياء ومميّزون بفضل ذلك المنهج البيداغوجي الذي اتبعته سانت بولس معهم. ٢

كلام دقيق من عقل فاحص ، فلربّ اسود فقير يعيش في هاوية معزولة افضل فناً واعظم علماً من ارستقراطيي تلك المدرسة برمتها.
لكنها ارادة المجتمع التي تنظر لهذا تابعاً ولذاك زعيماً.

لقد تعوّد زعيمنا على عباراته ، تعوّد انه الافضل والباقي سيئون ، متآمرون ، لا يحبون الخير للبلد ، افشلوا كل وزاراته ومؤسساته التي ادارها بنفسه مباشرةً ، لم يشارك نجاحه احدٌ ، كانوا شركاء له في فشله فقط ، لا يسمع نصيحة احد ، ولماذا يسمع! انه فريد ، انه مميّز ، هكذا صنع منه المجتمع.