يوم ككل الايام, بلا صخب, ولا هتافات, ولا حلقات دوامية متطاولة من الزعيق.. يوم يتشابه مع باقي ايامنا المتربة, مر مرور الكرام دون احتفالات أو نشاطات كما كانت تقام في ذلك العهد المجمر البعيد, ودون ان تصدح في الاركان اغاني المديح العالي لقائد فرضته الظروف والمخابرات الاجنبية في يوم قرر ان يكون ذكرى ميلاده في مثل هذه الايام من عام 1937, وعندما اكتشف فجأة انه ينحدر من نسب مرتبط بآل بيت رسول الأسلام محمد, بورك ميلادك سيدي ياحفيد الكرار..ولنضع-لسنوات طوال- العديد من الدوائر حول هذا التاريخ في اجندة ايامنا السوداء, ودون ان نلتفت الى الوثائق الكثيرة التي تظهر ان مولده كان –كمعظم مجايليه من سكان القرى والارياف- بتاريخ الاول من تموز 1939 ، وكما يؤكد ذلك العديد من العراقيين.
في اشد اعوام العراقيين مرارة , واكثرها حلكة, وفي تلك الايام عندما كان الشعب يتجرع تبعات مغامرات القائد واحلامه العبثية..وحتى بعد ان بعثرت الحروب كرامة ومقدرات الناس, وزرعت ارض العراق ومفاوزه بجثث القتلى والمدن المخربة, وحتى في السنين التي كنا نغمس فيها رغيفنا بادام الجوع, لم تتوقف الأحتفالات بعيد ميلاد صدام.. بل كانت تلك الآلام هي الجذوة التي تستثير العقلية المتملقة الطامعة في بعض ما يجود به القائد, لتصل حد وضعه , كعروس, في عربة ذهبية تجرها ستة أحصنة بيضاء.
تنقل وكالة الشعب الصينية عن صحفي عراقي قوله "أخر مرة شاركت فيها بتغطية احتفالات عيد ميلاد صدام حسين كانت في عام 2002، حيث حرصت السلطات العراقية أنذاك على اقامة احتفال كبير شارك فيه عشرات الألاف من مختلف المحافظات العراقية لإعطاء صورة للعالم بأن صدام حسين يحظى بتأييد جميع العراقيين، حيث كانت البلاد مقبلة على حرب مع الولايات المتحدة". وأضاف "إن ما أثار انتباهي في هذه الاحتفالية والتي دعيت اليها جميع البعثات الدبلوماسية العاملة في العراق في ذلك الوقت البذخ والاسراف، كما حضر الاحتفال جميع مسؤولي الحكومة العراقية، وأقيمت مؤدبة كبرى للوفود الأجنبية والرسمية المشاركة، فضلا عن بناء سرادق وتقديم الطعام والشراب فيها، في وقت كان فيه الشعب العراقي يعاني تحت طائلة الحصار الاقتصادي الجائر، والمواطن الفقير لايجد ما يأكله بينما تصرف الحكومة عشرات الملايين من الدولارات على احتفالية عيد ميلاد صدام".
والاهم ان القائد كان لايحضر مثل هذه الاحتفالات لأسباب أمنية خوفا من تعرضه لمحاولة إغتيال، وكان يحتفل بهذه المناسبة داخل اسوار القصر الجمهوري حيث يجلس وسط حلقات من الأطفال مستمعا الى اغاني معدة ومنتقاة بعناية من كل محافظات العراق مصحوبة بالرقص والهتاف والقاء القصائد في حبه وتمجيده، ويقوم بعد ذلك باستعراض محبة رعاياه وهداياهم التي كانت -في أغلب الأحيان- صوراً أو لوحات شخصية له ،حيث يقف متمعناً فيها واحدة بعد الأخرى, بزهو من امتلك مفاتيح كل شيء.. رغم ان اقصى احلامه كانت –كما يقول احد رفاق صباه –كانت لا تتعدى امتلاك سيارة جيب وبندقية صيد ومنظار.
تذكر لنا جريدة الثورة ان جزءا كبيراً من تلك "الملايين من الدولارات" صرفت , في آخر احتفالات عيد ميلاد القائد لدعوة ثلاثة آلاف شخصية سياسية ونقابية وبرلمانية وحكومية وصحافية من دول أجنبية وعربية، من بينها 350 شخصية مصرية و480 شخصية أردنية, ولتنفيذ ونصب 20 تمثالاً للرئيس يتم نصبها في عموم العراق واقامة 100 جدارية جديدة تضاف إلى مئات أخرى تصور الرئيس العراقي في مشاهد وملامح مختلفة. رغم ان التحالف الدولي كان يستجمع قواه على مرمى بصر من حدودنا المستباحة..
وقد يبرر هذا الهوس هو تلك الرغبة الدفينة لدى كل من وصل الى الحكم عن طريق فقه الغلبة في ان يترك شيئا من الذكرى الملفقة لمن يأتي من بعده, وقد يكون اعلى صور ذلك الهوس هو نقش حروف اسمه على اسوار بابل, وفي تلك القصص التي تبارى اعلامه في نسجها حول بطولات لا يعلم بها احد وانتصارات بطعم الذل والجوع.
ولكن كل ذلك الشغف بالتاريخ تهاوى مع وصول طلائع الاجتياج الى اسوار بغداد المشرعة الابواب عندما اختبأ في حفرة تاركا العراق يواجه مصيره كبلد تحت الاحتلال, ولتدمغ اعداته المتكررة لكتابة التاريخ بصورة الجندي الامريكي يسحبه من مخبأه اشعثا مغبرا عاجزا لا تقوى على تغيير وضعه كل القصص التي تناقلتها وسائل الاعلام المحسوبة على دوائر المخابرات العربية عن اعذاق الرطب الجنية وانه كان اسيرا ومخدرا منذ مدة الى اخر الحكايات التي توسع بدبجها العديد.. فلقد القت القوات الامريكية القبض على حارس البوابة الشرقية وهو يختبيء مثل الجرذ في بئر لسبب بسيط وهو انه من فصيلة الحكام الذين لا تنفع كل عنايتهم بالتاريخ في صناعة مجد لهم حتى لو كان من ورق الزيف والخداع.
يوم ككل الايام , يمر علينا بضجره وغباره وسويعاته التي لا يبدد سكونها ورتابتها الا اخبار الانتخابات والمرشحين والتراشق المحتدم ما بين الابتسامات والوقفات المبثوثة على طول وعرض ارصفة الوطن واعمدة انارته وزوايا شوارعه..يوم ككل الايام..نعم.. ولكن كل تلك الرتابة لا تقوى على ابعاد صورة الرفاق عن ذاكرتنا, وهم يجوبون الشوارع بشواربهم المصبوغة وعيونهم الغضبى متلقطين واجهات المباني بحثا عن شرفة لم تعلن ولاءها للرفيق القائد ولا ترسم الشموع على خرقة بيضاء في ميلاده الميمون..
|