مالك ابن الريب وأبو فراس الحمداني يندبان نفسيهما الرثاء وأروع قصائده في الأدب العربي.. كريم مرزة الأسدي

المدخل اللغوي ، المقدمة ...الحديث عن الندب والتأبين والعزاء 

 مدخل : 

المعنى اللغوي للرثاء  : 

  رثَى، يَرْثِي ، ارْثِ ، رِثاءً ورَثْيًا ، فهو راثٍ ، والمفعول مَرْثِيّ ، رثى الميِّتَ بكلمة ونحوِها رثاه ، عدّد محاسنه وبكاه  ، رثاه بقصيدة . 

• رثى لحاله : رقَّ ورأف بحاله وتوجَّع له  ،رثى للتُّعساء / للشهداء ، 

 حالته النفسيّة تدعو للرِّثاء ،  شيء يُرثى له : يستدعي الشَّفقة .

 ويرتبط المدلول اللغوي لــ (الرثاء) بالميت والبكاء. وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى) فيقال:"رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية"(1) "ويدل (رثى) في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق"(2) واخذ مدلول الرثاء يرتبط بالقصيدة الشعرية, ويقول ابن فارس: بأن " الراء والثاء والحرف المعتل أُصَيْلٌ على رِقّة وإشفاق. يقال رثَيْتُ لفُلان: رقَقتُ. ومن الباب قولُهم رَثَى الميِّت بشعرٍ. ومن العرب من يقول: رَثَأْت. وليس بالأصل."(3)

 المقدمة :     

إذا كان المدح - على الأغلب -  نفاقا ، وتكلفاً ، وارتزاقاً ، وتملقاً ، وكذباً ، ومن هنا تأتي مقولة الشاعر العظيم ، الانتهازي العليم ، البحتري النديم القديم :  ( أعذب الشعر أكذبه!) ، أكذبه لماذا ؟ ببساطةٍ .. المدح موضوعه موضوعي ، أي الشاعر المادح يحاول أن ينظم ليشبع رغبة وحاجة السيد الممدوح !! ، أمّا الرثاء الذي لا يسلك طريق المدح لإرضاء ذوي المرثي ، فهو أحاسيس وخوالج  ذاتية مبعثها ( أنا) الشاعر ليلبي حاجات  مشاعره النفسية المكبوتة في وعيه ولا وعيه عن ذكرياته وتشابك علاقات المحبة والحنان والعطف مع الفقيد الذي انتزعه القدر من ميكانزمية 

تفاعله الخلوي ، ووجدانه النفسي بآلامه ولذاته. ولا أعني هنا أن  الشاعر يتخلى عن (الأنا العليا) ، و الـ (هو) ، والظروف البيئية الموضوعية ، الأمور متداخلة ، متمازجة لا يمكن فصلها بحدود ، ولكن لا يتكلف الشاعر لإرضاء مشاعر الآخرين على حساب المشاعر الإنسانية الحقيقية الصادقة التي تفيض بها النفس الشاعرة ، فتسكبها على شكل إبداع خالد بتعبيره النافذ الخارق لوجدان الآخرين وعقولهم ، وتصويره الدقيق للحالة الإنسانية في أسمى معانيها . والرثاء أنواع منه الندب ينسكب أبان لحظات الموت  ممزوجاً  بالبكاء والنحيب  والشجي، ومنه التأبين وهو مدح خصائل الميت والثناء عليه بعد أن تهدأ العواطف ، وتخمد جذوات النفوس ، ومنه العزاء وتعمقه في فلسفة الحياة والموت، والصبر الجميل ، ....وإليك    

 1 -  ندب الشعراء : والرثاء  يسمى الندب إن تناول لحظات  المعالجة لفراق الروح جسدها سيان جاء من الشاعر نفسه إذ يبكي نفسه  كحالة مالك بن الريب عندما وافته المنية غريباً مجاهداً  في خراسان وأبي فراس الحمداني وهو يخاطب ابنته ، أو من الأهل كالأخوة  أوالأخوات كبكاء الخنساء لأخويها معاوية وصخر  ، وحتى الجواهري في رثاء أخيه جعفر في بداية قصيدته ( أخي جعفر )  ، ويمكن أن يمتد الندب ليندب  الشاعر أهله وعشريته ، وأصدقائه ، ووطنه ، بل إنسانيته  ، فهو بكاء مشجٍ ، ونواح مبكٍ ، وفراق  محزنٍ ومؤلم ، الدموع تنهمر ، والقلوب تُدمى ، يهيم الإنسان بزفراته وعبراته وآهاته ، رثاء سبق الرثاء ، وطبع يهتزّ بالمصاب الجليل  ،فغلب التطبع على الصبر الجميل !! سنأتي في هذه الحلقة على الندب الرفيع  

2 -  التأبين: 

تأبين:  إسم ، مصدر أبَّنَ ، خطبة أو شعر أو مقال ، أو حديث ، يمتدح شخصا ميتاً ، وتعداد خصاله بما كان يتصف به من صفات كالكرم والشجاعة والعفة والعدل  ولا ريب هو ليس ببكاء ولا نشيج ، وإنما تعدد المناقب ، ويجزل الثناء غلى روح الفقيد في ذكراه ، وإليكم هذه الأبيات لأبي الأسود الدؤلي في حق الإمام علي : 

قَتَلْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا * * * وأَكْرَمَهُمْ ومَنْ رَكِبَ السَّفِينا

ومَنْ لَبِسَ النِّعال ومَنْ حَذَاها * * * ومَنْ قَرَأَ المَثانِيَ والمِـئِينـا

إذا اسْتَقْبَلْتَ وَجْه أَبِي حُسَيْنٍ * * * رَأيْتَ البَدْرَ رَاقَ النَّاظِرِينـا

وقد عَلِمَتْ قريشٌ حيثُ كانَتْ * * * بأَنَّك خَيْرُهُمْ حَسَبْـا ودِينَـا

وقال جَرير بن الخَطَفي في الزبير بن العوام  : 

إنِّي تُذَكِّرُنِي الزُّبيْرَ حمـامَةٌ * * * تَدْعُو بمَجْمَعِ نَخْلَتَيْنِ هَـدِيلا

قالَتْ قريشٌ: ما أَذَلَّ مُجاشِعاً * * * جاراً، وأَكْرَمَ ذا القَتِيل قَتِيلا

أَفَتَى النَّدَى وفَتَى الطِّعان قَتَلْتُمُ * * *وفَتِي الرِّياح إذا تَهُبُّ بَلِـيلا

 3 - العزاء : يذكر ابن منظور في (لسانه)العزاء هو : الصبر عن كل ما فقدت ، وقيل : حسنه عزي يعزى عزاء - ممدود - فهو عز ، ويقال : إنه لعزي صبور إذا كان حسن العزاء على المصائب ، وعزاه تعزية - على الحذف والعوض - فتعزى قال سيبويه : لا يجوز غير ذلك . قال أبو زيد : الإتمام أكثر في لسان العرب ، يعني التفعيل من هذا النحو ، وإنما ذكرت هذا ليعلم طريق القياس فيه ، وقيل : عزيته من باب تظنيت ، وقد ذكر تعليله في موضعه ، وتقول : عزيت فلانا أعزيه تعزية ، أي أسيته وضربت له الأسى ، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزيا ، أي تصبر تصبرا . وتعازى القوم : عزى بعضهم بعضا - . والعزاء والعزوة : اسم لدعوى المستغيث ، وهو أن يقول : يا لفلان ، أو يا للأنصار ، أو يا للمهاجرين ، قال الراعي :

فلما التقت فرساننا ورجالهم ***  دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر

وقول بشر بن أبي خازم : 

نعلو القوانس بالسيوف ونعتزي ***والخيل مشعرة النحور من الدم (4)

العزاء: هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين. إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت. تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني  الوجود والعدم والخلود ، وإليك من ققصيدة رثاء لكاتب هذه السطور ، وتأمل ، أيها القارئ الكريم :

أرى الحياة َ كسرٍّ, لطفُ بارئها

أعيى العقول َ, بما تحويه ينكتمُ

 

إنّ التـــــوازن َ- جلّ اللهُ مقدرة -

من الخليـة ِ حتى الكون منتظـــمُ

 

سبحان منْ أبدع التكوينَ في نسق ٍ

لاينبغي أنْ تحيدَ الشمــــسُ والنجمُ

 

وتارة ً قــــد نرى في طيشها عجباً

لا العـــــــدلُ بين ثناياها ولا القيــمُ

 

تــــــأتي المنية ُللصبيان ِتغصبهمْ

روحَ الحياة ِ, ويُعفى العاجزُ الهرِمُ

 

أنّى ذهبـــــــتَ لتسعى في مناكبها

هـــــــــــي المظالم ُ مَلهومٌ ومُلتهِمُ

 

فالضرغمُ السبعُ عدّ الأرض ساحتهُ

والكلبُ مــــا نالّ من عظم ٍ وينهزمُ

 

والغيثُ يهطلُ فوق البحر من عجــز ٍ 

ولا تدرُّعلــــــــــــــــــى تربائها الديمُ

 

دع ِ المقـاديرَ تجري في أعنّتها"(1)"

لا العلم ُ يدركُ مغزاها ولا الفهِــــــــــــمُ

وإليك الآن قصائد تعد من روائع  قصائد الشعر العربي ، ، ولك أيضاً الحكم من بعد على ما أدوّن ،  ومن قبلُ ومن بعدُ الحكم للذوق العربي !! 

 والله سأشرع بهذا المالك بن الريب ، لأن الشعر فن ، لا يأبه بالسبق التاريخي ، وإنما بالذوق الإنساني !!

1 - مالك بن الريب يندب نفسه :  

        مالـك بـن الريـب (توفي نحو 60 هـ / 680 م ) من شعراء الواحدة ، أي من الذين اشتهروا بقصيدة واحدة خلدتهم على مدى العصور ، ولم تعرف لهم قصيدة أخرى إلا مقطوعات نادرة ، وهم  دوقلـة المنبجـي  ، ابن زريـق البغـدادي ،  سحيـم عبـد بنـي الحسحـاس  ،توبـة بن الحِمْيَـرْ ، ومالك بن الريب ، محور حديثنا الحالي .     

 ولو أنني أميل أن أضيف إليهم عدّة شعراء آخرين ذاع صيتهم بخريدة واحدة ،ولو أنَ ديوانهم ضمّ قصائد أخرى بقيت في بطون الكتب خامدة جامدة ، المهم هذا المصطلح  يعود إلى أول  كتاب نقدي أدبي عربي ، وهو (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي ، وكان يعني بهم  من أجادوا بقصيدة ، واشتهروا بها ، بالرغم من كثرة أشعارهم كعنترة في ميميته ،  وطرفة في داليته ، وكلتاهما من المعلقات ، الموضوع يحتاج لحلقات مستقلة ، نرجع للمالك !!  

يذكر  خير الدين الزركلي في ( أعلامه) : 

  مالك بن الريب بن حوط بن قرط المازني التميمي: شاعر، من الظرفاء الادباء الفتاك ، اشتهر في أوائل العصر الاموي ، ورويت عنه أخبار في أنه قطع الطريق مدة ، ورآه سعيد بن عثمان ابن عفان  بالبادية في طريقه بين المدينة والبصرة، وهو ذاهب إلى خراسان وقد ولاه عليها معاوية (سنة 56) فأنبه سعيد على ما يقال عنه من العيث وقطع الطريق واستصلحه واصطحبه معه إلى خراسان، فشهد فتح سمرقند، وتنسك، وأقام بعد عزل سعيد، فمرض في  (مرو ) - قلب طهران حالياً -  وأحس بالموت فقال قصيدته المشهورة، وهي من غرر الشعر، وعدتها 58 بيتا. (5) 

وقال أبو علي القالي: كان من أجمل العرب جمالا، وأبينهم بيانا، وقيل لما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا حية في داخلها فلسعته، فلما أحس الموت استلقى على قفاه ثم أنشأ قصيدته يرثي بها نفسه، وأن مالك يوم أو ساعة أحس الموت، أحس إحساسا مأساويا عميقا بالغربة، وندم ندما شديدا يوم أصبح في جيش ابن عثمان غازيا وفي بلاد غريبة، ودفن في مكان غريب في قفرة بعيدا عمن هو عزيز عليهن ، ولذلك تسمى أحياناً بالقصيدة المبكية المحزنة ، إذ تصل إلى القلوب ،وتذهل العقول لمن يفقه الأدب العربي حقّاً وصدقاً ، ومثل ما أقدّم لكم مراراً وتكراراً هذا المخزون التراثي العربي لعلكم تتذكرون ، وتشكرون ، إليكم إياها  !! :

 

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً *بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا

 

فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه*وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا

 

لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى ***مزارٌ ولكنَّ الغضى ليس دانيا

 

ألم ترَني بِعتُ الضلالةَ بالهدى* وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيا

 

وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بعد ما *أرانيَ عن أرض الآعاديّ قاصِيا

 

دعاني الهوى من أهل أُودَ وصُحبتي * بذي (الطِّبَّسَيْنِ) فالتفتُّ ورائيا

 

أجبتُ الهوى لمّـا دعاني بزفرةٍ ** تقنَّعتُ منهـا أن أُلامَ ردائيا

 

أقول وقد حالتْ قُرى الكُـردِ بيننا * جزى اللهُ عمراً خيرَ ما كان جازيا

 

إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى * وإن قلَّ مالي طـالِباً ما ورائيا

 

تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي * سِفـارُكَ هـذا تاركي لا أبا ليا

 

لعمريْ لئن غالتْ خراسانُ هامتي* لقد كنتُ عن بابَي خراسان نائيا

 

فإن أنجُ من بابَي خراسان لا أعدْ *إليها وإن منَّيتُموني الأمانيا

 

فللهِ دّرِّي يــوم أتـــركُ طائعاً *** بَنيّ بأعلى الرَّقمتَــينِ وماليا

 

ودرُّ الظبَّاء السـانحات عشيةً ***يُخَبّرنَ أنّي هالك مَـنْ ورائيــا

 

ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهمـــــــا * ***عَليَّ شــفيقٌ نا ــح لو نَهانيا

 

ودرّ الرجـــال الشاهدين تَفتُكي *** بأمريَ ألاّ يَقْصُروا مـــن وَثاقِيــا

 

ودرّ الهوى من حيث يدعو صحابتي * ***ودّرُّ لجـاجاتي ودرّ انتِهائيـا

 

تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ * *** سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا

 

وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه ******** إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا

 

ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ *********** عزيزٌ عليهنَّ العشيةَ ما بيا

 

صريعٌ على أيدي الرجال بقفزة *******يُسّوُّون لحدي حيث حُمَّ قضائيا

 

ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي ********* وخلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا

 

أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه * ***********يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا

 

فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا ******** برابيةٍ إنّــــــي مقيــــــمٌ لياليا

 

أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ * ***************ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا

 

وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا * *************لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا

 

وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي ******* ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا

 

ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكما *** من الأرض ذات العرض أن تُوسِعا ليا

 

خذاني فجرّاني بثوبي إليكما ********** فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا

 

وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَرتْ ***** سريعاً لدى الهيجا إلى مَنْ دعانيا

 

وقد كنتُ صبّاراً على القِرْنِ في الوغى * وعن شَتْميَ ابنَ العَمِّ وَالجارِ وانيا

 

فَطَوْراً تَراني في ظِلالٍ ونَعْمَةٍ * *وطوْراً تراني والعِتاقُ رِكابيا

 

ويوما تراني في رحاً مُستديرةٍ ****  تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماح ثيابيا

 

وقوماً على بئر السُّمَينة أسمِعا * بها الغُرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا

 

بأنّكما خلفتُماني بقَفْرةٍ ****** تَهِيلُ عليّ الريحُ فيها السّوافيا

 

ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعد ما * تَقَطَّعُ أوصالي وتَبلى عِظاميا

 

ولن يَعدَمَ الوالُونَ بَثَّا يُصيبهم * ولن يَعدم الميراثُ مِنّي المواليا

 

يقولون: لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني *** وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا

 

غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غدٍ*إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا

 

وأصبح مالي من طَريفٍ وتالدٍ * لغيري، وكان المالُ بالأمس ماليا

 

فيا ليتَ شِعري هل تغيَّرتِ الرَّحا *رحا المِثْلِ أو أمستْ بَفَلْوجٍ كما هيا

 

إذا الحيُّ حَلوها جميعاً وأنزلوا *** بها بَقراً حُمّ العيون سواجيا

 

رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُجِنُّها ***** يَسُفْنَ الخُزامى مَرةً والأقاحيا

 

وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى * بِرُكبانِها تعلو المِتان الفيافيا

 

إذا عُصَبُ الرُكبانِ بينَ (عُنَيْزَةٍ)*و(بَوَلانَ) عاجوا المُبقياتِ النَّواجِيا

 

فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ * ***كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا

 

إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي*على الرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا

 

على جَدَثٍ قد جرّتِ الريحُ فوقه*تُراباً كسَحْق المَرْنَبانيَّ هابيا

 

رَهينة أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّنتْ * قرارتُها منّي العِظامَ البَواليا

 

فيا صاحبا إما عرضتَ فبلِغاً * بني مازن والرَّيب أن لا تلاقيا

 

وعرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنها **** سَتَفلِقُ أكباداً وتُبكي بواكيا

 

وأبصرتُ نارَ(المازنياتِ) مَوْهِناً* بعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّرف رانيا

 

بِعودٍ أَلنْجوجٍ أضاءَ وَقُودُها * مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُوراً جَوازيا

 

غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفزةٍ ****** يَدَ الدهر معروفاً بأنْ لا تدانيا

 

اقلبُ طرفي حول رحلي فلا أرى* به من عيون المُؤنساتِ مُراعيا

 

وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني **** بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا

 

فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي * *******وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا

 

وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ *** ذميماً ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا

 

2  -  أبو فراس الحمداني يندب نفسه :  

هو أبو فراس ، وهذه كنيته ، الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الوائلي،(320 - 357 هـ / 932 - 968 م) ، نشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة في حلب، بعد موت والده باكراً، فشب فارساً شاعراً، وراح يدافع عن إمارة ابن عمه ضد هجمات الروم ويحارب الدمستق قائدهم  ، وكانت المواجهات والحروب كثيرة بينهما  في أيام أبي فراس، وفي إحدى المعارك خانه الحظ يوماً فوقع أسيراً سنة 347 هـ (959م) في مكانٍ يُعرف باسم ( مغارة الكحل ) . فحمله الروم إلى منطقة تسمى خَرْشَنة على الفرات،والأرجح أنه أمضى في الأسر ثلاث سنوات . ففي سنة (962) م تم تحريره. وفي سجنه نظم الروميات، وهي من أروع الشعر الإنساني وأصدقه .

وكان  في أوقات السلم يشارك في مجالس الأدب ، فيذاكر الشعراء وينافسهم، وحدثت بينه وبين المتنبي مشادات كلامية  كثيرة ،  قال الصاحب بن عباد: بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك، ويعني امرأ القيس وأبا فراس .

وولّى سيف الدولة شاعرنا  مقاطعة منبج   ،فأحسن حكمها والذود عنها ، وقال ابن خالويه: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرغويه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات  في الطريق، ويقول ابن خلكان في ( وفياته) : " وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلثمائة . 

ورأيت في ديوانه أنه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطبا ابنته :  

أبنيتي لا تجزعي  ******  كــــل الأنام إلى ذهابِ

نوحي علي بحسرة *** من خلف سترك والحجاب

قولي إذا كلمتـــني ***** فعييت عـــن ردّ الجواب

زين الشباب أبو فرا  ****** س لم يمتع بالشباب

وهذا يدل على أنه لم يقتل، أو يكون قد جرح وتأخر هوته، ثم مات من الجراحة.

وقيل إن هذا الشعر قاله وهو أسير في أيدي الروم، وكان قد جرح ثم أسر ثم خلص من الأسر، فداه سيف الدولة مع من فودي من أسرى المسلمين " (6)