وطن في صورة

الصورة أصدق أنباء من الكلمات. قد تكون الصورة تفصيلاً حياتياً يومياً تقبض عليه العين. وقد تكون شريطاً سينمائياً أو لقطة فوتوغرافية اقتنصتها كاميرا مصور ماهر. وهي في كل الحالات، تتيح وقتاً للتأّمّل والتفاعل مع محتواها، وما سينتج عنه من تحليل أو تأويل جمالي.

 

الصورة التي أتحدث عنها مشحونة بالشجن. تحث على تأجيج عواطفنا التي أوشكت أن تجف مثلما يجف الفرات في الجنوب الآن، بسبب التهاون بالتعامل مع القضايا الكبيرة في بلاد الرافدين.

 

صورة فوتوغرافية اقتنصها الصحفي جعفر النصراوي لزمن المتخثر داخل كادرها يمثل رئيس الوزراء في أثناء الترويج لحملته الانتخابية في محافظة كربلاء. يجلس المالكي مزهوّاً وعلم العراق ملتفاً حول رقبته، فيما يقف خلفه رجل في نهاية الستينيات من عمره ويبدو على ملامحه التعب والفقر. ثيابه رثّة، وشفاهه متشقّقة؛ مشهد لا يحتاج إلى تحليل، وغير قابل للتأويل. هل ثمة دلالة للعلم في هذه الصورة؟ هل هو رمز جامع لأبناء الوطن شعباً ومسؤولين؟ ليس ثمة جواب، لأن الكلمات التي تخرج من بين تلك الشفاه المتشققة لا صوت لها.

 

الرئيس المزهّو بنفسه، الذي أكد في خطابه هناك أنه بحاجة إلى الأصوات لإكمال مسيرة البناء فضحته الصورة التي كانت أبلغ من كل خطاباته. الصورة التي تلاقفها الشبّان على مواقع التواصل الاجتماعي، تعبيراً حقيقياً عن علاقة الفرد بالدولة في عراق اليوم. فليس الفرد في هذه الدولة إلا مقهوراً وضعيفاً وجائعاً، فقد تحوّلت الدولة إلى إقطاع، وشفطت كلّ شيء دون أن تكلف نفسها برمي الفتات، مجرد فتات، لرعيّتها.

 

تفضح هذه المشهدية عجز الدولة عن تأدية واجباتها في حفظ كرامة مواطنيها وتقديم الخدمات لهم، وعجزها عن الحفاظ على رعاياها من المسنّين. وتشي أيضاً بفشل المالكي نفسه في إدارة الدولة.

 

صورة النصراوي اختزال مؤلم لما يجري في عراق الألفيّة الجديدة، مشهد لا يختلف كثيراً عن مشاهد صور الموت والتفجيرات. القتل المعنوي يشبه إلى حدٍّ بعيد القتل المادي، ونحن ضحايا القتلين في هذه البلاد التي يتخبط فيها الساسة، وعلى الأخص رئيس الوزراء الذي حوّل الدولة إلى مزرعة كبيرة يجول فيها هو وأقاربه.

 

صورة مثل هذه تكفي لمعرفة الدمار الذي حلّ في البلاد في ظلّ سياسيين متشبثين بالكراسي، رافضين مبدأ تداول السلطة الذي نص عليه الدستور الذي وافقوا هم أنفسهم عليه، وإقرار القوانين المهمّة التي تمكن هذا الرجل المسن من المكوث في بيته معزّزاً مكرماً، ويغادر التعب والفقر محياه.

 

إنها الصورة التي ستتكرر ما لم يُحسن الناخبون اختيار مرشحيهم في الانتخابات المقبلة. ستظلّ كالكوابيس تلاحقنا في ليالينا ونهاراتنا، صورة قد يتمدد الزمن فيها لأكون أنا أو أنت واقفين مكان الرجل المسن فيما المالكي الساعي إلى ولايات مفتوحة واقفاً بالقرب منا وعلم العراق يلتف حول رقبته. قد نصبح داخل الإطار، ويتمّ تناقل وجوهنا لأننا لم نحسن توظيف أصواتنا، أو سقطنا مجدداً، بإرادتنا، في أفخاخ الخطابات الملوثة بالطائفية، وصراع السياسيين الديكة على المناصب والنفوذ.

 

وضع هذه الصورة في متحف الزمن العراقي هو لحظة الخلاص العراقي الذي هو حلم الجميع، عراق لا يجوع فيه أحد، ولا يقف المؤجِّر على باب المستأجِر وهو ينذره بالطرد نتيجة تأخر تسديد قيمة الإيجار، ولا يتلوّع فيه العراقي من جشع الأطباء والصيادلة والمختبرات الطبية والمستشفيات الأهلية التي خلت لها ساحة معاناة المرضى نتيجة سوء خدمات وتعامل المستشفيات الحكومية. عراقي يحلم أن يكون عراقه (زرق ورق) كما هو حال نيويورك وأبو ظبي.

العراق كلّه كان يقف خلف هذه الصورة، فاعتقوه من إطارها.