عاتبني أحد الأصدقاء بقوة حينما كتبت جملة (الإمتناع عن التصويت .. تصويت), وذلك على هامش الدعوة للمشاركة في الإنتخابات, وقد حسب ذلك تجاوزا على حرية الإنسان التي تعطيه الحق في أن أو ينتخب أو لا ينتخب. لكني في ردي على هذا الصديق تمنيت عليه لو أنه يعيد قراءة ما كتبته فسيكتشف أن الجملة التي كتبتها لا تشمل بطبيعة الحال كل من قرر – بوعي إرادي محسوم - عدم الذهاب إلى الإنتخابات بل المواطن المصاب بالإحباط واليأس من أداء النظام الحالي لكنه ما يزال على إيمانه بالديمقراطية كنظام وبصندوق الإنتخابات كآلية تغيير, وهو يعتقد أن لا وجود لغيرها في الوقت الراهن, ورأيت أن إمتناع مواطن كهذا عن التصويت لصالح أصدقائه سيكون بمثابة تصويت لصالح خصومه. عراقيا, ليس في قوانينا ما يجعل التصويت إلزاميا, ولا وجود لنظام الحد الأدنى لنسبة المشاركة لتقرير شرعية الانتخابات من عدمها. وأرى معقولا أن نحسب شرعية الإنتخابات من خلال نسبة المشاركين فيها. كأن تكون غير شرعية حينما تتجاوز نسبة المقاطعين لها نسبة المشاركين بها. وما اصطلح عليه بعبارة «المعايير الدولية» قد يعني أن لا تتعدى نسبة المقاطعة الـ %50, لكن دولا أخرى قد تعتمد نسبة مشاركة بحدود 40% والسبب هو إعتماد الـ 10% لتغطية المتغيبين عن الحضور لأسباب خارج إرادتهم كالعجز أو المرض أو الإنشغال أو غيره من الأسباب. بالنسبة للحالة العراقية ثمة نسبة لا بأس بها من الناخبين كانت ذهبت إلى صناديق الإقتراع ليس من واقع إيمانها بالعملية السياسية, ولا تقديرا لإمكانات تحقيق فوز مقرر للفصائل التي تظنها الأجدر, ولا حتى لإيمانها بأن من تنتخبه سيقدم الكثير, وإنما لإعتقادها أن مقاطعتها ستصب بالنتيجة لصالح القوى الأكثر فسادا, وبهذا تصبح مشاركتها في الإنتخابات قد جرت عنوان (اللهم لا أسألك رد القضاء بل أسألك اللطف فيه). رغم الإعتراف بأهمية الأسباب التي تدعو إلى المقاطعة, وحتى بأحقيتها, فأنا شخصيا كنت شاركت تحت عنوان التمني نفسه, اي تلطيف القضاء وليس رده, فمع الكثيرين أؤمن أن بنية العملية السياسية معطلة, لا بل وتخريبية, لأنها قائمة على المحاصصات الطائفية والقومية التي تمزق وحدة البلد وتوزعه غنائم على المتحاصصين, وهي بهذه البنية سوف لن تكون قادرة على إصلاح ذاتها بذاتها, والأحرى, بوجود عملية من هذا النوع, أن يجري بداية إستفتاء على بقاء هذه العملية أو زوالها قبل أن يجري إستفتاء من داخلها على برامجها وشخوصها, أي أن يجري إستفتاء ديمقراطي على العملية السياسية ذاتها لكي لا تتحول ديمقراطيتنا إلى نوع من الدكتوقراطيات التي ينطبق عليها المثل ( تريد ارنب أخذ أرنب تريد غزال أخذ أرنب). لا أحد من اصحاب القرار مستعد لتلية طلبك هذا أو حتى التوقف لقراءته, فحتى المتخاصمين مع المالكي من داخل العملية لا يرومون إصلاحا جذريا. لكن نسبة لا بأس بها من الناس باتت تدرك أن الحركة الإصلاحية من داخل العملية السياسية لن تقدم حلا لأغلب المشاكل الحقيقية التي يجابهها البلد. وحتى أبسط هذه المشاكل فهي ليست ناتجا عرضيا محضا وإنما ذات علاقة بالبنية الأساسية المنخورة للعملية السياسية ذاتها وإن الحل الحقيقي هو الذي يبدأ بإلتشريعات التي تؤسس لدولة وطنية مدنية ديمقراطية حقيقية. غير ان السؤال سيكون حينها, بعيدا عن مجرد التاكيد على حق وحرية إعلان الرأي الرافض للعملية السياسية, أين هي الوسائل الدستورية التي تجعل لهذا الرأي قوة القرار. ديمقراطيا, ولتلافي الإنفجارات العنفية للتعبير عن الرفض المتراكم, سيكون مجديا لو كان هناك تشريع دستوري لحساب نسبة الإمتناع عن التصويت إلى نسبة المشاركة وذلك كمؤشر على شرعية الإنتخابات أو لا شرعيتها, مع وجود مؤسسة قانونية محايدة تأخذ على عاتقها قيادة السلطة في مرحلة إنتقالية ويكون من مهامها تعديل الدستور والدعوة إلى إستفتاء جديد عليه. لكن لا أحد من داخل النظام المهترئ سيوافق طوعا على إقتراح كهذا لأنك ستكون كمن يطلب من لص تسليم نفسه طواعية, والعراق فيه من الكنوز ما يغري على تشكيل الأحزاب التي لا هدف لها غير السرقة عن طريق السياسة. إن العراق في المرحلة الراهنة بات مثقلا بقيود إقليمية ودولية وداخلية لم يعد من السهل انفكاكه منها, ولحين مجئ اللحظة التاريخية الفاعلة التي تجيز التغيير الحقيقي فإن لا احد من حقه تعطيل وسائل العمل السياسي للتغيير بحجة عدم جدواها في تحقيق تغيير جاد, فإن كنا لا نستطيع رد القضاء ألا ينفع العمل من أجل تلطيفه.
|