النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان

يحتفل المجتمع الدولي يوم 10-12- من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان وهو اليوم الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة وثيقة مبادئ حقوق الإنسان عام 1949، وقد طابق هذا العام ذكرى استشهاد الإمام السجاد (عليه السلام) صاحب أكمل وثيقة لحقوق الإنسان وهي (رسالة الحقوق)، وصادفت هذا العام في شهر محرم الحرام وفي ظل أجواء النهضة الحسينية المباركة، فيكون من المناسب الإشارة إلى جملة من مبادئ حقوق الإنسان والمثل الإنسانية العليا التي جسدها الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة أقوالا وأفعالا باللغة المتداولة في هذا العصر، لنوصل البشرية إلى هذا المعين النقي الذي يمدها بكل مقومات الحضارة الإنسانية ، ولنقوم بشكل من إشكال النصرة التي طلبها الإمام السبط الشهيد (عليه السلام) بإبراز القيم السامية و المثل العليا التي عمل (عليه السلام) على إقامتها وترسيخها ودعوة الناس إليها.

وسنتعرض باختصار لذكر عدد منها تاركين التفصيل إلى فرصة أخرى .

1-  وأول تلك المبادئ وأهمها وأرقاها والتي تتقوم بها إنسانية الإنسان هي الحرية ونعني بها الانعتاق من عبودية ما سوى الله تبارك وتعالى، من خلال السعي لتحقيق العبودية الحقة لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص وطاعته تبارك وتعالى وطاعة من أمر الله تبارك وتعالى بطاعته.

وقد كان تحرير الأمة من عبودية الطواغيت ومن أغلال الخنوع والاستكانة والركون إلى الدنيا وضعف الهمة ومن الجهل والنفاق أهم نتائج النهضة الحسينية، حتى أصبح الإمام (عليه السلام) سيد الأحرار ورمزهم ورائد كل حركات التحرر إلى يومنا هذا وإلى قيام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وما كان (عليه السلام) يستطيع تحقيق ذلك لولا أنه امتلأ معرفة بالله تعالى، وتجرد من كل ما سوى الله تعالى، وعاش عبداً مخلصاً لله تبارك وتعالى، وكيف لا يكون كذلك وهو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بنص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وكان كل كيانه ووجوده لله تبارك وتعالى، ومن يتأمل في دعائه (عليه السلام) يوم عرفة يجد ذلك واضحاً في علاقته مع ربه، والمعارف الإلهية المودعة فيه، والتي هي الوسيلة للوصول إلى العبودية الحقيقية والتوحيد الخالص (كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بُعدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبِّك نصيباً) (وأنت الذي تعرّفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء).

وهكذا كان الإمام (عليه السلام) إلى آخر لحظة من حياته المباركة، وكانت أدعيته (عليه السلام) يوم عاشوراء معبّرة عن هذه العلاقة وهذا الارتباط، فقد افتتح يوم العاشر حين اصطف الجيشان للقتال بدعائه الذي يظهر منه كمال الانقطاع إلى الله تعالى فافتتح خطابه مع القوم بالدعاء (اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمُتُ في العدو، أنزلتُهُ بك وشكوتُهُ إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليّ كلِّ نعمة وصاحب كلِّ حسنة ومنتهى كلِّ رغبة) وكان (عليه السلام) يثني على كل موقف حر أبي، لذا أكبَرَ (عليه السلام) موقف الحر الرياحي لتحرّره من عبودية الطاغوت ووقف على مصرعه قائلاً له (والله ما أخطأت أمك إذ سمتك حراً فأنت والله: حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة) . ([2])

2- العدالة بين أفراد الأمة من دون تفريق بين أحد وآخر لأي من الاعتبارات الموجودة، وقد كثر هذا المعنى في كلماته (عليه السلام)، حتى أنّه استغرب من طاعة جيش العدو لأمرائه من دون توفير هذا الحقّ لهم، فقال لهم يوم عاشوراء موبّخاً (تباً لكم أيتها الجماعة وترحا!... فأصبحتم ألباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيشٍ طمعتم فيه).

 

وكان (عليه السلام) يطالب بالتوزيع العادل للثروة على الشعب بلا استثناء ولا هدر للمال العام ولا تبديد للثروات على النزوات والشهوات والحماقات، فقد جعل (عليه السلام) من أهداف خروجه على السلطة الحاكمة أنّهم (أظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء).

3- المساواة في الحقوق الاعتبارية والمادّية، فأما الأولى: فقد اختلط دم أهل بيت النبوّة بدماء غيرهم ووقف الإمام الحسين (عليه السلام) على مصرع جون وهو مولى لأبي ذر أسود اللون كما وقف على مصرع ولده علي الأكبر شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وشكر سعي الجميع وتضحيتهم بكلمات رفيعة بلا فرق بينهم، وأمّا في الحقوق المادّية فقد قدّمنا رفضه (عليه السلام) للاستئثار في ثروات الشعوب ومطالبته بمراعاة حقوق الجميع على حد سواء.

4- العمل بالدستور والقوانين التي آمنت بها الأمة بملء إرادتها واختيارها، والمطالبة بتطبيقها وهي بالنسبة للمسلمين: القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال (عليه السلام) في كتابه لأهل البصرة: (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه فإنّ السنة قد أميتت وأن البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد) ويصف السلطة الحاكمة بأنّهم (لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله) أي انقلبوا على الدستور وغيّروا أحكامه.

5- احترام إرادة الأمة في تولية أمورها إلى مستحقيها الذين يقومون فيها بالقسط والعدل وينصفون المظلومين ويعمرون الحياة بالخير ويقرّبون الناس إلى الله تبارك وتعالى، ومنع وصول الفاسدين والمستبدّين إلى السلطة، بالطرق غير المشروعة كالانقلابات العسكرية وتزوير إرادة الأمة، قال (عليه السلام): (أمّا بعد أيّها الناس: فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكون أرضى لله، ونحن أهل البيت وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس له، والسائرين فيكم بالجور والعدوان).

6- الكرامة ورفض الذلّ والمهانة بكل أشكالها، من خطبة له (عليه السلام) يوم عاشوراء (ألا ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

7- إحقاق الحق ونصرته، وإبطال الباطل ومقاومته بكل الوسائل المتاحة التي تقتضيها الحكمة وتكون مطابقة لأحكام الشريعة حتّى لو أدّت إلى شهادته، قال (عليه السلام): (ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).

8- الإصلاح وتصحيح الواقع الفاسد وإقامة البديل الصالح في كل تفاصيل شؤون الأمة، سواء على صعيد الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو القضائي أو الأخلاقي والعقائدي وغيرها، من خلال أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل أدواتها وكافة مستوياتها، قال (عليه السلام) (أما بعد فقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال في حياته ((من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)) وقد علمتم أنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر).

وكتب (عليه السلام) في وصيته (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وابي علي بن أبي طالب).

9- حريّة التعبير عن الرأي واتخاذ القرار بكل اختيار وإرادة من دون أي تأثير وإكراه.

في ليلة عاشوراء والعدو عازم على مناجزته القتال وقد تكامل عددهم ثلاثين ألفا وهو (عليه السلام) في سبعة عشر من أهل بيته و سبعين من أصحابه، ومن كان في ذلك الموقف يتشبّث بأي عدّة أو عدد، نراه يجتمع مع اصحابه ويقوله لهم (إنّي لا أحسب القوم إلاّ مقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حلٍّ مني وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له منكم قوّة فليضمّ رجلاً من أهل بيتي إليه وتفرقوا في سوادكم).

 

10- الشفافية والوضوح وعدم المخادعة والتضليل.

من كلامه (عليه السلام) مع أصحابه وقد جمعهم ليلة العاشر من المحرم ليكاشفهم بالأمور قال (عليه السلام): (اعلموا انكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بِألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر بأنّهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم مقصد إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أن تكونوا ما تعلمون وتستحيون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف).

11- الرحمة والشفقة عليهم والنصيحة لهم.

فقد أبلغ في النصيحة لجيش العدو وألقى عليهم الخطبة بعد الخطبةِ وضمّنها كلّ الحجج الدامغة والكافية لردعهم عن اقتراف هذه الجريمة، ووعظهم بأنواع المواعظ، ولكنّهم كانوا كما وصفهم الإمام (عليه السلام) (لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم وما تريدون) حتّى قال (عليه السلام) (ألا إنّي قد أعذرت وأنذرت) وقال لزهير بن القين بعد أن وعظ القوم (أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت، لو نفع النصح والإبلاغ).

وفي بعض الروايات أنّه بكى يوم عاشوراء شفقة على أعدائه معللاّ ذلك بأنهم (يدخلون النار بسببي) وهو كجدّه وأبيه وأخيه (صلوات الله عليهم أجمعين) أرسلوا رحمة للعالمين.

12- عدم التجاوز على حقوق الآخرين وردِّها إلى أهلها، ومن ذلك أمره (عليه السلام) لبعض أصحابه قائلاً (نادِ في الناس أن لا يقاتلن معي رجل عليه دَين، فإنّه ليس من رجلٍ يموت وعليه دين لا يدع له وفاءاً إلا دخل النار) فهو (عليه السلام) لا يرى هذا الموقف العصيب والمفصل التاريخي في حياة الأمة مبرّراً للتقصير في إرجاع الحقوق إلى أهلها.

وروى الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبيه السجاد (عليه السلام) أن آخر ما أوصاه أبوه الحسين (عليه السلام) عندما ودّعه وخرج للقتال (يا بني اتقِ ظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تعالى).

13- التضحية بالمصالح الخاصة من أجل وحدة الأمة ومصالحها العليا، قال (عليه السلام) (أمّا بعدُ، فإنّ الله اصطفى محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره برسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به (صلى الله عليه وآله) وكنّا أهله وأوليائه وأوصيائه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحقُّ بذلك الحق المستحق علينا ممّن تولاه).

وكان من أهم ما أوصى به الإمام الحسين(عليه السلام)ذ كوسيلة لتحقيق هذه المبادئ الإنسانية العليا: الصبر والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وعدم الجزع من المكاره والمصائب.

لمّا سمعت العقيلة زينب (عليها السلام) أخاها الحسين (عليه السلام) ينعى نفسه وهو يصلح سيفه ليلة عاشوراء لطمت وجهها وخرّت مغشياً عليها فصبّ على وجهها الماء وقال لها: (يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون وأهل الأرض يموتون وجميع البريّة لا يبقون، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنّ لي ولكِ ولكل مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: هذا باختصار بعض ما يمكن استخلاصه من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) ومواقفه فيما يتعلّق بحقوق الإنسان، وعلينا –ونحن نخوض هذه المواجهة الحضارية مع الغرب الذي يوصف بالمتمدّن- أن نُعمّق مثل هذه المعرفة وننهل المزيد منها لنقدّمها للمجتمع البشري كمنظومة متكاملة قادرة على تحقيق السعادة والازدهار والكرامة والحرية لبني الإنسان.

[1] كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الملتقى السنوي لمدراء فروع جامعة الصدر الدينية في النجف وسائر المحافظات يوم الأربعاء 27 محرم 1434 الموافق 12/12/"2012.

([2]) مصدر هذه النصوص كتاب (موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)) إصدار معهد تحقيقات باقر العلوم في الصفحات التالية 531، 959، 432، 433، 383، 511، 457، 512، 483، 485، 491، 501، 519، 505.