إعادة تقسيم الوطن العربي |
التقطيع بمقص التناحر الطائفي خطر داهم لا مفر منه, يهدف إلى تقسيم البلدان العربية وتقطيع أوصالها بمقص التنافر الطائفي, وتهديم أركانها بمعاول التحزب المذهبي المشحون بكل نزعات الحقد الموروث والكراهية المستحدثة. . بدأت حكاية التشرذم منذ اليوم الذي قرعت فيه طبول الحرب العالمية الأولى, في اليوم الذي وقف فيه أمراء القبائل العربية وشيوخ المساجد, وقساوسة الكنائس كلهم مع الحلفاء ضد الإمبراطورية العثمانية, التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة على سرير دولة الرجل المريض, ولم تقف معها إلا فئة قليلة اختارت التجحفل شمالي مدينة الزبير في كثبان صحراء الشعيبة لتواجه القوات البريطانية بمفردها, وتخوض معركة خاسرة وغير متكافئة, وما هي إلا بضعة أيام حتى صارت الأرض العربية كلها تحت سيطرة القوات البريطانية والفرنسية, انتهت بتحرر تركيا من تبعية الإمبراطورية المتهالكة, وسقوط الديار العربية في قبضة الاستعمار, فجاءت معاهدت (سايكس بيكو), التي أبرمتها بريطانيا مع فرنسا, لتتولى تقسيم إرث الإمبراطورية الإسلامية, وترسم حدودها الجديدة في ضوء تكليف دبلوماسي وجهته فرنسا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1915 لقنصلها (جورج بيكون) في بيروت, ليلعب دور المندوب السامي في متابعة شؤون الشرق الأدنى, ومنحته الإذن بالتفاوض مع مندوب الحكومة البريطانية للتباحث معه في رسم مستقبل البلدان العربية, فسافر إلى القاهرة ليجتمع مع البريطاني (مارك سايكس) بحضور المندوب الروسي, فتوصلوا هناك إلى اتفاقية (القاهرة السرية), انتقلوا بعدها إلى مدينة بطرسبرغ الروسية, فأسفرت مفاوضاتهم عن اتفاقية ثلاثية لتحديد مناطق نفوذهم على النحو التالي:- ((تستولي فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أطنة, وتستولي بريطانيا على جنوب العراق ووسطه حتى مدينة بغداد, ويضاف إليها موانئ عكا وحيفا في فلسطين, بينما تستولي روسيا على أرمينيا وشمال كردستان, ويكون لها حق الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين, اما المنطقة المحصورة بين الحصص الفرنسية والحصص البريطانية فتكون على شكل دولة عربية اتحادية, أو مجموعة من الدول الموحدة, على أن تبسط فرنسا نفوذها على المناطق السورية الشرقية حتى ولاية الموصل, بينما يسمح لبريطانيا بمد نفوذها حتى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد, وينتهي نفوذها عند الحدود الإيرانية, في حين يخضع الجزء المتبقي من فلسطين لإدارة دولية, ويصبح ميناء الاسكندرونة ميناءً دولياً حراً. . كانت هذه هي الخطوط العامة للمعاهدة الاستعمارية, التي وضعت الحواجز الحدودية الأولى لتجزئة الأرض العربية, وتحكمت بمواردها, وتلاعبت بمصيرها, ونصبت الوجبة الأولى من الملوك والزعماء والأمراء, ووزعت عليهم الأدوار والمسؤوليات تحت إشراف ومراقبة المندوب السامي. . ثم اختارت بريطانيا وزير المستعمرات ونستون تشرشل لتنفيذ المراحل التكميلية المتبقية, فكلفته بالتنسيق مع مندوبها السامي في فلسطين هربرت صموئيل (يهودي), وجون فيلبي (عبد الله فيلبي), وحاييم وايزمان, وتوماس لورانس (لورنس العرب), وجون باغوت كلوب (كلوب باشا) قائد الجيش العربي الأردني للمدة من 1939 إلى 1956, فاجتمعوا مع زبانية القوى الاستعمارية المستبدة ليضعوا اللمسات الأخيرة على الحدود الفاصلة لبعض الكيانات العربية الهشة الموالية لهم, ولم تمض بضعة أعوام حتى خضع الناس من حيث يعلمون أو لا يعلمون لبرامج التشفير الحدودي, وتعمقت مشاعرهم المنحازة لعواصمهم السايكسبيكوية, فتعاقبت الزعامات المتناقضة على الحكم, جيل بعد جيل. . لم يفلح الزعماء العرب في شيء مثلما فلحوا في التآمر على بعضهم البعض, في الوقت الذي ظلت فيه ولاءاتهم مرتبطة بالبيت الأبيض, كل على طريقته, وبالأساليب السرية أو العلنية المعتمدة, ولم تكن الجامعة العربية تجمعهم على كلمة واحدة إلا في بعض المواقف الاستثنائية النادرة ولفترات وجيزة, فالتنافر بين الأقطاب المتشابهة هو المشهد السائد في الوسط العربي. . ثم جاءت تصفيات كرة القدم لترسخ مشاعر الولاءات (الوطنية) المصطنعة, فتصدعت علاقات العرب مع بعضهم البعض بركلات الجزاء والضربات الحرة غير المباشرة, وليس أدل على ذلك من تصدع العلاقات بين القاهرة والجزائر, في مناوشات صبيانية انتقل فيها الصراع من الملاعب الكروية الخضراء إلى الخنادق الدبلوماسية الحمراء, وربما كانت مباريات كأس الخليج هي القشة التي قصمت ظهر البعير العربي في أكثر من مناسبة. . ثم تكاثرت الفضائيات العربية لتوظف برامجها في خدمة الأغراض الطائفية الضيقة, فكان لها الدور التخريبي المؤثر على عواطف الناس وتضليلهم, وبالتالي تشتيتهم في وديان الضياع المذهبي, حتى انحرفت بوصلتهم عن جادة الإسلام الحقيقي, الذي يدعوهم للتآخي والتلاحم والتواد, وابتعدت كثيرا عن الروابط القومية والعلاقات الأخوية. . ثم سمع الناس دوي طبول الخطر من أوكار جزيرة قطر, ووقفت قناة الجزيرة في طليعة الفضائيات المضللة, وتوسعت القواعد الحربية الأمريكية في قطر بالطول والعرض, ولم يعد وراءها وراء بالمقارنة مع كل القواعد الحربية, وصارت قواعد (العديد), و(السيلية), و(سنوبي) هي الركائز المحورية لتوجيه الضربات الصاروخية لمن لا يذعن لسلطة النظام العالمي الجديد (New World Order), الذي باشر ببسط نفوذه من الأراضي العربية الاسلامية, لم تكن لهذه القوى الغاشمة أي قواعد في الهند أو في السند, أو حتى في سيلان, أو زنجبار, أو جورجيا, أو سوقطرة, أو أي مكان آخر في العالم مثل التي لها في الديار العربية, في حين سيكون الشعب العربي أول الضحايا, وسيتحمل وزر كل الكوارث والنكبات من دون أن يرتكب ذنباُ أو يقترف إثماُ, لولا تواطؤ زعمائه في إبداء فروض الطاعة والولاء الى القوى الظلامية الغاشمة. . نحن الآن على مسافة قريبة جداً من مؤامرة دولية خبيثة تستهدف النيل من الديانة الإسلامية والديانة المسيحية على حد سواء, وتستهدف تفتيت ما تبقى من أواصر القومية العربية, وتقسيم كل دولة إلى دويلات متناحرة وإمارات متنافرة. . مؤامرة خططت لها الدوائر الاستعمارية القديمة منذ زمن بعيد, وكلفت بتنفيذها الزعامات الجديدة التي تسلقت إلى سدة الحكم بعد انتهاء الألعاب النارية في فضاءات ما يسمى بالربيع العربي, فطلبت منها القوى الظلامية الالتزام بسيناريوهات الأدوار المنوطة بها, وستشهد المنطقة في الأيام القليلة القادمة موجة مفبركة من الخلافات المفتعلة داخل البلد الواحد, هذا ينحاز إلى الفئة (A), وذلك ينحاز إلى الفئة (B), وكل قوم بما لديهم فرحين. . ولسنا مغالين إذا قلنا إن ما يجري الآن في سوريا وليبيا والعراق, وربما في مصر من أزمات حادة واختناقات مؤلمة, وما رافقها من عناد واحتراب وتصريحات متشنجة, وصلت في بعض محاورها إلى درجة الاقتتال والتكفير والتسقيط, يعد صورة مصغرة للمأساة العربية الشاملة, وستناط الأدوار التكميلية ببعض رجال الدين, من فئة وعاظ السلاطين, الذين تطوعوا لتكريس الفرقة والتحريض على التناحر, وبرعوا في زرع الفتن, وبث الضغائن بين الناس. . والله يستر من الجايات |