تحديد الفترات الرئاسية وكبح الطموحات السلطوية

وأخيرا اقر مجلس النواب في جلسته المنعقدة يوم "26/1/2013" قرار يقضي بتحديد ولايات الرئاسات الثلاث لدورتين متتاليتين فقط, في قرار مهم اخرج مجلس النواب من نمطية مناقشاته وقراراته الهزيلة التي دأب على اتخاذها في خطوة من شانها توجيه مسار العملية الديمقراطية وتقويمها, ومعالجة خلل أغفله الدستور بتمكين رئيس السلطة التنفيذية ذو الصلاحيات الواسعة من الامتداد في الحكم, مع بروز مؤشرات خطيرة لتنامي النزعة السلطوية لرئيس الوزراء نوري المالكي. لقد انتبه المشرعون في النظم الديمقراطية الحقيقية وواضعو دساتيرها في العالم إلى بديهية باتت تشكل أساسا متينا لبناء دولة المؤسسات الدستورية, وذلك بتحديد الفترة الرئاسية وعدم تجديدها لأكثر من فترتين متتاليتين لتكون كابحا أمام الطموح الشخصي لمن يتولى هذا المنصب الحساس من شخصنه مؤسسات الدولة لصالحه, والفقرة الأولى من المادة (69) من الدستور العراقي أقرت جواز انتخاب رئيس الجمهورية لفترة ثانية لا غير لذر الرماد في العيون واثبات ديمقراطية دستورنا, كونه نظام برلماني وزاري وليس رئاسي وان منصب رئيس الجمهورية هو منصب فخري وبصلاحيات بروتوكولية لا تمكنه من استغلال نفوذه وسلطته وتسخيرها لصالحه, إلا إن الدستور وثغرة أخرى من ثغراته التي يبدو إنها وضعت عن قصد قد اغفل تماما تحديد الفترة الرئاسية لمنصب رئيس الوزراء ذو الصلاحيات التنفيذية الواسعة, التي قد تشجعه على الامتداد خارجها واستخدام هذه الصلاحيات لإدامة فترة بقائه, وشخصنه مؤسسات الدولة بالأشكال التي تضمن له التجديد المستمر, وقد تنتهي بالتوريث وفق نظام انتخابي شكلي كما هو شائع في ديمقراطيات الدول النامية. قد يشترك العراق مع دول عديدة يسمح دستورها بفترات غير محددة من الحكم كبريطانيا طالما ظلت ليست لها دستور يحدد ممارساتها الديمقراطية, ولكن لا مجال للمقارنة بين تجربة الحكم في العراق وديمقراطية المتعثرة وبين دولة المؤسسات البريطانية, ولا مجال للمقارنة أيضا بينه وبين الهند صاحبة الباع الطويل في الممارسة الديمقراطية التي أرسى مبادئها عمليا على ارض الواقع الزعيم الملهم (غاندي) ... ولا يكفي أن يكون ذلك تقليدا عالميا لكي يكون صحيحا في كل الحالات, فبإمكان المرء أن يعدد بالمقابل دولا أخرى لا تلتزم بهذا الشكل من الآليات الديمقراطية, ففي أمريكا وروسيا والبرازيل وفرنسا ذوات الأنظمة الرئاسية لا يجيز للشخص عينه حق التجديد لأكثر من مرة, وفي وضع كوضع العراق, حيث لا زالت الدولة الجديدة في طور النشوء والتكوين وهي بالتالي تخلو من المؤسسات الدستورية الرصينة المنجزة, ومع احتدام الخلافات بين القوى السياسية التي لا يمكن حلها من دون رعاية لسلطة أو مؤسسة دستورية محايدة, كما لا يمكن مطلقا الاعتماد على النوايا لبناء ثقة جمعية لا يتخطاها المسؤول باتجاه بناء رصيده الشخصي وإطباق سلطته تدريجيا على مفاصل السلطة ودولتها الجنينية, إضافة إلى جنوح مؤكد باتجاه الهيمنة السياسية الشخصية والعائلية والقبلية والفئوية, وكل ذلك من الممكن تفعيله فيما إذا كانت هنالك فرصا مفتوحة أمام الحاكم لتجديد ولايته, حيث سيكون الحاكم أكثر ميلا لبناء ملكوته الخاص وشخصنه مؤسسات الدولة والعمل بكل الجهود والإمكانات لإدامة بقاءه في السلطة, وسيسعى إلى خلق أجهزة أمنية وإستخباراتية قمعية تحمي سلطانه وتديم ولايته, وسيتجه حتما لتصفية خصومه سواء من المعارضين أو الحلفاء وحتى قادة حزبه المشكوك في ولاءهم المطلق له. ومع وجود هذه الثغرة الدستورية في ديمقراطية تعصف بها الأزمات, فان إصرار السيد رئيس الوزراء نوري المالكي على جمعه لخيوط السلطة جميعا بيديه قد أفضى إلى تحول مؤسسات الدولة إلى مؤسسات سلطة, وبوادر هذا التحول تبدو شاخصة للعيان من تهميش مجلس النواب وتعطيل قراراته وتسييس القضاء واستخدامه لقولبة القرارات والنصوص الدستورية, ومحاولة الاستحواذ على المفوضية المستقلة للانتخابات وتوجيهها وفق اتجاه بوصلة المالكي الانتخابية, وإقصاء رؤساء هيئة النزاهة واستخدام الهيئة كسلاح لإقصاء الخصوم أو لحماية الحلفاء الفاسدين, والسيطرة على هيئة الإعلام والاتصالات وتزييف الحقائق أمام الرأي العام, ناهيك عن إحكام السيطرة على جميع المؤسسات الأمنية لترسيخ الحكم الفردي الاستبدادي, وهذه الأسباب تشكل كوابح وموانع حقيقية لعدم تجديد الولاية للمالكي, ناهيك عن سوء الأداء الحكومي وانخفاض مؤشرات النمو والتطور وإهدار المال العام وشيوع الفساد بكل أنماطه... إن إجراء مراجعة دورية لمواد الدستور بعد كل مرحلة محتدمة بالأزمات يبدو ضروريا لتشخيص الخلل, وتغيير وإقرار المواد الدستورية بما ينسجم مع شكل الديمقراطيات المتقدمة لإكمال بناء الدولة المؤسساتية.