إثارات متأنية على مظاهرات "السريع"

على خطى التجارب العربية الفاشلة والناجحة يحاول البعض في العراق ان يكرر التجربة من خلال القيام بمظاهرات واعتصامات "مدنية". من اجل تجييش تظاهرات جماهيرية عريضة جدا يراد لها مرة ان تكون انتفاضة من اجل القضاء على الفساد وتوفير الخدمات ويراد لها مرة ان تطيح بالتجربة السياسية عموما الحاصلة حاليا في العراق ومرة يراد لها بين هذا وذاك وربما غير ذلك من الاسباب والمبررات التي تساق مبدئيا من اجل انجاح الفكرة.
ولان القضية حساسة والمعادلة فيها صعبة جدا فان اي محاولة لابداء النظر حول الموضوع يضعك في زاوية المتهم مع او ضد هذا الطرف او ذاك، حتى لو كنت ممن يرغبون في حراك جماهيري ضاغط من اجل تذكير الساسة بمصير من سبقوهم ممن حاولوا الاستحواذ بالكعكة.

من جهة فان الطبقة السياسية الحاكمة حاليا في العراق في البرلمان او الحكومة تتمادى بشكل او باخر في عدم القيام بواجباتها تجاه الشعب العراقي، وان هذه الطبقة ليس من السهولة بمكان استبعادها في الانتخابات بشكل كامل، لان من يستبعده صندوق الانتخابات من الباب يعود الى الواجهة بحيلة قانونية او باخرى من الشباك! ولهذا لابد من دور ضاغط فيه شيء من الغلاظة والجدية بحيث تشعر الساسة بأن ظهورهم مكشوفة وان وصولهم للمناصب العليا ليس نهاية المطاف. ومن جهة اخرى فان وضع العراق مختلف كثيرا عن التجارب العربية الاخرى خصوصا بالنسبة للتجربتين التونسية والمصرية نتيجة ظروف ومعطيات كثيرة:
- المجتمع التونسي والمصري لايعانيان من تفكك وانقسام طائفي اثني حاد كما هو الحال مع العراق ففي كلا البلدين يطغى الاسلام السني وهو مالا يثير حفيظة المحيط العربي المستفز جدا من صعود الشيعة، كما ان مشكلة الاقباط مختلفة تماما عما يحصل من تفكك في النسيج الاجتماعي العراقي. اما بالنسبة للتفاوت الطبقي فهو مسالة اخرى لاتثير حفيظة الاخوة الكبار والصغار في الشرق الاوسط. ولهذا فان النموذج السوري المشوّه هو السيناريو الاقرب حصوله في العراق اذاما فقدت السيطرة على الحراك "المدني" الحاصل حاليا.
- للعراق جيرة لاتنظر للعراق الا بعين الطمع والشماتة ومتضادة فيما بينها حد التباين الفاضح في المواقف، وهذه الحالة غير متوفرة في التجارب المشار اليها. لابل ونتيجة للتجارب السابقة فان العراق يدفع الثمن دائما فيما اذا اتفقت جيرته فيما بينها وحتى فيما اذا تصارعت واختلفت في الرؤى والقناعات السياسية، وهذه مسالة غريبة جدا في عرف العلاقات الدولية!
- حتى مع وجود التفكك والضعف في العملية السياسية العراقية لكنها تمثل تطابقا الى حد ما في المصالح بين طبقة سياسية يتداخل فيها السني والشيعي بالكردي، العشائري بالديني.. مما يصعّب المهمة امام المتظاهرين او المنتفضين لو كانوا يهدفون الى اسقاط الطبقة السياسية الفاسدة اما اسقاط الحكومة لوحدها فانه لايحل المشكلة فالفاسدون متحاصصون توافقيا في الفساد المالي والاداري حد التخادم السياسي والكل يعرف ذلك.
- هل يواجه المتظاهرون شيوخ العشائر من الساسة ؟! هل يهتفون ضد بعض البيوتات الدينية التي ارست لها قاعدة اقتصادية عريضة مستفزة للطبقة المحرومة ؟! فهذه الاطراف شريكة في بطانة الفساد .. رغم ان بعضها ركب الموجة واستقر وسط المتظاهرين. ثم ان التظاهرات رفعت رايات واعلام مختلفة، وكل من رفع راية مستعد لخوض حرب اهلية من اجل ارسائها.
لقد قادت الشبيبة المصرية والتونسية زمام المبادرة وادارت المظاهرات بكفاءة عالية فهل يمتلك العراق قاعدة شبابية متعلمة الى هذا الحد؟ مع الاخذ بعين الاعتبار ان العراق خلال الثلاثين سنة الماضية خاض ثلاث حروب مدمرة وحصارا اقتصاديا اباد الحرث والنسل، كان اول ضحاياه هو التعليم.
هناك نقطة مهمة جدا لابد من الاشارة اليها في هذا الجانب وهو وجود عامل استثنائي يمثل نقطة تحول في التجربتين التونسية والمصرية.. المقصود هنا كسر حاجز الخوف الذي يعتبر الوصول اليه ضمانة استمرارية الزخم الجماهيري المطلوب، حيث انه يعبأ الثوار المدنيين تباعا ويرجع في ذاكرتهم الجمعية تراكمات الماضي السحيق فيزرع بداخلهم زخما قويا نحو التغيير. لكن ذلك العامل النفسي الحاسم لايوجد حاليا في الشخصية العراقية اذ انها استنفذت زخم الاحتقان والتراكم الماضي في المواسم الانتخابية الكثيرة التي جرت في السنوات الماضية وما تبقى تبخر ايضا خلال المواسم الدينية وهذه هي الاخرى ليست قليلة مما يعني اختلاف التجربة العراقية تماما عن التجارب السابقة. ناهيك عن ان ذلك الحراك المدن يان اختزل بردة فعل المكوّن الواحد فقط فهذا يعني ان الاخرين سوف يتلقونه على انه حراك مستفز، وهذه مشكلة اخرى وبضاعة مفضلة جدا بالنسبة للكثير من الساسة للاسف الشديد.