ربنا لاتؤاخذنا بمافعل السفهاء منا..

يرجع أصل هذا الدعاء الى قول نبي الله موسى عليه السلام الذي ورد في القرآن الكريم في معرض سرد قصته مع بني اسرائيل إذ قال (ربنا أتهلكنا بمافعل السفهاء منا) . فلقد واعد موسى قومه ثلاثين ليلة فما كان منهم الا ان اتخذوا عجلا إلها لهم في غيبته، وقد إنقسم قومه بين مؤمن بالإله الجديد وبين رافض منتظر لعودة موسى ليقول كلمة الفصل فيه وعندما عاد غضب على قومه لاتخاذهم العجل إلها وحينها سأله المؤمنون أن يدعو ربه ليتوب على بني إسرائيل فإختار موسى سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل خرج بهم ليسألوا الله التوبة لقومهم فارتجت بهم الارض فقال موسى لربه (أتهلكنا بمافعل السفهاء منا).

وهكذا اصبح هذا الدعاء لسان حال الخيرين واصحاب الرأي السديد والقويم ممن لاحول لهم أمام سطوة السفهاء محاولين درء المخاطر التي يتسبب بها الجهلة والمتخلفون. فعلماء اللغة عرفوا السفه بانه اضطراب في الرأي والفكر والاخلاق والسفيه هو قليل العقل والمراد منه الجاهل. ويتجلى خطر السفهاء عندما يتعلق الأمر بقضايا مصيرية تحدد مصير أمة وتغير مسار التاريخ. وعادة ما يستغل بعض القادة او دعاة الجاه والمنصب طبقة السفهاء لتحقيق اهدافهم المدمرة للمجتمع. فالجهلة والمتخلفون لهم صوت عال دوما في المجتمعات المتخلفة وهم يعادون العلم والعلماء ويسيرون وفقا لأهوائهم ويتبعون كل فاسد وكذاب أشر.

الا ان المصيبة الكبرى تتمثل في أن المجتمع ككل يدفع ثمن مواقف السفهاء فيصيبه البلاء والفتن التي لاتستثني أحدا سفيها كان أم كان حكيما. فابناء كل مجتمع هم كراكبي سفينة واحدة لو خرقها أحدهم غرق الجميع. وهكذا حذر الله تعالى في محكم كتابه من ذلك قائلا ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). فالبلاء يعم الجميع رغم ان الجهلة هم من أوصلوا الاوضاع الى ما وصلت اليه وذلك لان الحكماء والعلماء لم يقفوا بوجههم ويغيروا مسار الأحداث بدلا من ترك السفهاء يتلاعبون بمقادير المجتمع.

وبالعودة الى قصة نبي الله موسى فان السامري صنع تمثالا على شكل عجل ودعا قومه الى اتخاذه الها وقد استحسن بعض قومه الفكرة وقالوا هو خير من اله موسى فهذا الإله نستطيع رؤيته على الأقل وليس كإله موسى الذي لايرى. فهم نظروا للقضية من زاوية واحدة فقط واما كيف يمكن لمجسم مصنوع ان يكون الها وكيف يمكن لهم تصديق السامري وتكذيب نبيهم موسى الذي عرفوه خير معرفة فان عقلهم قد قصر عن التفكير في كل ذلك وانجر وراء فكرة الإله المرئي والملموس.

فالجهلة والمتخلفون لاينظرون أبعد من أنوفهم فلايمحصون الافكار والاراء فيختاروا أفضلها بل يريحون عقولهم من التفكير ويتبنون ابسط الافكار واسفهها. فعندما يتعلق الأمر مثلا بإختيار قادة للمجتمع جربوهم سابقا وخبروهم واقتنعوا بجهلهم وفسادهم وعدم كفائتهم بل وسفههم وفقا للمفهوم الشرعي الاسلامي الذي يعرف السفيه بالذي ينفق أمواله بغير وجه حق الا انهم يعيدون اختيارهم انطلاقا من فكرة تافهة مفادها (شين اللي تعرفه أحسن من زين اللي ماتعرفه)أو ( حرامية ولا بعثية) وهم يخدعون من قبل اعلام مرتزق وفئات فاسدة تقوم بدور السامري فتنصب قائد تضفي عليه صفات المدافع عن المظلومين فهو مختار العصر الذي ظهر اليوم ليصفي حسابات تأريخية عمرها اربعة عشر قرنا.

وهكذا ينساق الهمج الرعاع رافعين ايديهم ومرددين شعارات عجل السامري الذي كان له خوار قائلين ( ابد والله بعد ما ننطيهه). فهؤلاء الجهلة لايفكروا في ثروات بلادهم التي تسرق في وضح النهار وهي التي تحيل الخرائب الى قصور فبمبلغ مليار ونصف مليار دولار فقط حولت إمارة دبي قطعة من صحراء خالية الى برج يناطح عنان السماء تفتخر به تلك الامارة الصغيرة فيما عجز عجل السامري عن ذلك برغم انفاقه لألف مليار دولار طيلة سنوات حكمه انفق اصحابه جزءا كبيرا منها لتأجير شقق فاخرة في برج الشيخ خليفة في دبي.

فشل قائدهم في تحقيق الأمن في البلاد وعاد العراق الى المربع الاول ولازال السفهاء يتلمسون له الاعذار مدعين ان دول الجوار تحاربه متناسين انه مدعوم من قبل القوة العظمى على الارض ومن قبل اعظم دولة في الاقليم. وفشل في مسيرة الاعمار وتوفير الخدمات والسفهاء يدافعون عن فشله ملقين باللوم على سياسة المحاصصة متناسين بأنه يدير وائتلافه ثمانية عشر منصبا رئيسيا في الدولة فضلا عن الهيئات المستقلة وهيمنته على القضاء. وفشل في تحقيق الوحدة الوطنية بل مزق المجتمع وجعله طرائق قددا تطبيقا لسياسة فرق تسد، الا ان السفهاء والجهلة يرون فيه قائدا قويا مدافعا عن المذهب والطائفة.

الحكماء والعلماء والفضلاء بذلوا كل مافي وسعهم لتجنيب البلاد مخاطر فتنة ستصيب المجتمع ككل وليس السفهاء وحدهم فالعديد من الاعلاميين والمفكرين أدوا دورهم على احسن وجه محاولين توعية الجهلة كما اتبع هارون مع قوم موسى ولكن بلا طائل. واما العلماء فقد دعوا وبشكل واضح للتغيير واغلقوا ابوابهم بوجه اله السامري فيما دعا احدهم وبشكل واضح لحرمة اتخاذه قائدا وكما فعل هارون عليه السلام الا انهم لم يلقوا اذانا صاغية من السفهاء. والسفاهة ليست بين الهمج الرعاع فحسب بل حتى بين القوى السياسية ، فبعض تلك القوى ستصاب بداء السفاهة قريبا وستنسى او تتناسى مافعله بهم مختار العصر من اقصاء وتهميش ومحاربة وتسقيط وستضع ايديها بيده متقاسمين الغنيمة .

وبعض القوى ولربما ستتنكر للفتاوى ولإرشادات الحكماء وستتلمس لنفسها الأعذار لكي تركب قطار السامريين. وحينها ستدخل البلاد في نفق مظلم آخر لايعلم أحد منتهاه. ولذا فان المسؤولية التي تقع على عاتق الاعلاميين والعلماء والحكماء والقوى الوطنية هي اعظم اليوم، فبغض النظر عما تسفر عنه نتائج الانتخابات التي لن تفرز قطعا فصيلا واحدا يفوز باغلبيتها، فيجب عدم الاستسلام لصوت السفهاء فالمعركة لم تنتهي بعد بل هي بدأت للتو ويمكن اليوم وعبر التحالفات البرلمانية تغيير مسار البلاد والسير بها في طريق الامن والسلام والرقي وهذا لن يتحقق الا بازاحة السفهاء وان تعذر ذلك فلايسعنا الا الدعاء قائلين ربنا لا تؤاخذنا بمافعل السفهاء منا!