قليلة هي الأحداث الثقافية التي تشعر معها أن صورة العراقي ليست فقط هذه التي تروج في وسائل الإعلام بوصفه قاتلا وضحية. قليلة ونادرة وتبدو عندما تمر بنا وكأنما هي مزنة صيف حتى أننا حين نصادفها نهرع لها ونطوقها من كل جانب صاخبين فرحين. إن هذا عائد للظرف السيكولوجي الخطير الذي نمر به. فنحن، في الواقع، مجروحين ومنكسرين ولدينا شعور عميق أننا ظلمنا خلال سنوات ما بعد صدام لجهة أن صورة مشوهة واحدة سُوّقتْ عنا، وأننا ما عدنا ملهمين لغيرنا قدر ما صرنا أمثولة لكل شر مستطير. لهذا نبدو بحاجة ماسة لأي حدث يذكّر الآخرين بحقيقتنا المغيبة. ورد هذا في ذهني وأنا أهيئ نفسي لاستقبال صديقنا الروائي أحمد سعداوي الفائز بأهم جائزة عالمية الآن في الرواية ألا وهي البوكر التي توازي في أهميتها جوائز الغونكور والبوليتزر وحتى الأوسكار في السينما. تخطر لي أن الحدث سعيد ورمزي وهو لا يتعلق بمجرد فوز رواية اسمها "فرانكشتاين في بغداد" بمسابقة ضمت مئات الأعمال العربية، بل الأمر أعمق من ذلك ويتعداه إلى إعادة تشكيل جزء من صورتنا عن أنفسنا بصدق لم نعتده، صدق بعيد عن تقريع الذات أو تجميلها، وهو ربما كان صادما لأذهاننا التي اعتادت الهرب من الحقيقة وتقديم بدائل مزيفة عنها. كل هذا متأتٍ من أن سعداوي حاول رسم صورة جديدة عن شخصيتنا التي حيرتنا طويلا بتناقضها الداخلي، ليقدم، هذه المرة، مقاربة رمزية بالغة العمق، فبدلا من شطر هذه الشخصية لعالمين متناقضين أحدهما بريء والآخر مجرم. قال لنا بطريقة فنية مبهرة أن الخير فينا معادلٌ للشر، وأن أولى خطوات تنقية نفوسنا تكمن في الاعتراف بهذا التنازع. بل أنه لا مجال للخلاص من سجننا إلّا بإخراج الوحش منها. هنا تكمن أهمية الرواية، فهي تجتهد في تقديم تفسيرها للعنف من وجهة نظر ذات شاعرة بالخوف من نفسها ومن وحوشها المخبوءة، وهي في الوقت نفسه، ذاتٌ طيبة وغير قادرة على استيعاب الشرور التي انطلقت منها. ولكي تتفهموا قراءتي هذه، عليَّ اختصار ثيمة "فرانكشتاين في بغداد" لأقول أنها تقوم على مغامرة "عتاّك" يقيم في البتاويين ويعمل في بيع العتيق وشرائه. هذا الرجل يغامر فيجمع أشلاء ضحايا التفجيرات ليصنع منها كائنا ما. ثم فجأة تدبُّ الروح في الكائن فيتضح أنه مخلوقٌ عنيف، يشرع في الانتقام ممن قتل الأشلاء التي صُنع منها. وفي الأخير، يختلط عليه الأمر فيتحول إلى وحش كاسر يطيح بالضحايا والمجرمين على حدٍّ سواء. وبعيدا عن الأفكار الفلسفية التي يبنى عليها العمل، ينجح سعداوي في رسم مزاج العنف العراقي المنفلت في عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦، حتى أنني شخصيا شممت رائحة خوفي التي أعرفها جيدا، وخُيَّل لي أن فرانكشتاين يمكن أن يلج علي الدار بين لحظة وأخرى. بمعنى أن صديقنا الذكي نجح في الغوص داخل مخاوفنا وهواجسنا معيدا لنا اللحظة الكارثية التي يمكن أن تتكرر في أيّ يوم. شخصيا، أعتقد أنه فضلا عن المخيلة الجامحة والبناء السردي المتقن، فان سبب نجاح سعداوي يكمن في أصالته، فالعمل عراقيٌ صميم بمزاجه وأجوائه, بشخوصه وثيمته، ولعل فوزه بجائزة كبرى كالبوكر دليل لا يقبل الشك على صواب فكرة أن التوغل في المحلية هو استغراق بالإنسانية في المحصلة الأخيرة. لقد سبق للناقد غالي شكري أن قال عن مثل هذه الأعمال أن "دوستوفيسكي كان روسيا حتى العمق وبلزاك كان فرنسيا في تفاصيل التفاصيل، ولكن هذا التعمق في الجزء المحلي من الكرة الأرضية، جعلهم يثقبون برؤاهم الأرض من الجهة المقابلة لمجتمعهم، أي إنهم انطلاقا من رقعة في المكان رأوا الكون ومن لحظة في الزمان رأوا الأبدية". روائينا الذي نفخر به فعل هذا بالضبط فعاد لنا بالبوكر حائزا، نيابة عنا، على أول اعتراف عالمي كبير بتحفة أدبية عراقية. فمرحى له بهذا الإنجاز الذي أدعو القراء للاستمتاع به، فلعلنا ننتهي من الوحش الذي صنعناه بأنفسنا. |