طقوس حزن على ضفاف الفرات

وسط صخب النقاش الحاد والجذب والشد في الاحاديث, سرح بيَّ الفكر بعيداً لأيام خوالي كانت تسود فيها التقاليد البالية والافكار الجاهلية , وقد تزامن ذاك السرحان في الفكر مع سماع بعض كلمات ذاك النقاش, ليقوم العقل بإخراج فديو كليب حزين يحاكي ويلامس الواقع المرير الذي نعيش وسط تلك الاحداث المصيرية المتسارعة والتي تنذر بقراءة حزينة للمستقبل المجهول.

وبما ان موضوع النقاش ليس بالغموض الكبير لان نقاشاتنا والحادة منها تحاكي الحدث الآني والقرارات العاجلة , فان الصورة المميزة والاقرب للفيديو كليب هي (الفصلية) تلك الصورة المريرة للظلم والاضطهاد الذي عانته المرأة في حقبة زمنية من تاريخ العراق, والفصلية هي الفتاة التي تأخذ عنوة من بيت اهلها, لتدفع الى بيت رجل اخر دون ان تكون لها حرية الاختيار بالموافقة او الرفض يعني دون قيد او شرط, لأنها تدفع ثمن خطيئة ارتكبها اهلها بحق ذاك الشخص او احد افراد عائلته.

سرح بي الفكر لأني لم اتوافق مع طريقة الطرح في ذاك النقاش الذي يذكرني بنساء الجاهلية وهنَّ يولولن فوق اشلاء جثث ابطالهنَّ الذين خسروا حرباً لم يخططوا لها مسبقاً لغرورهم بانهم الاقوى ولديهم اشجع الفرسان, ووسط ذلك المشهد يبحث العقل عن اسباب خسارة المعركة!, لكن سرعان ما يبرر العقل سبب ذلك النصر بالتخطيط الجيد واستخدام اساليب الحيلة والمكر المشروعة في كل المعارك, وكسب الوقت واستثمار الجهد والامكانيات وتسخيرها لخدمة تلك المعركة, وذلك يفوق الشجاعة والتنظير والثقة بالنفس الزائدة عن الحد والتي تصل الى الغرور الذي يقتل صاحبه.

ما كان يشدني من الحديث نبرة الحزن بطعم الانهزام وهي تداعب امواج نهر الفرات ليلاً, لتتلألأ العين ببريق الدمع حزناً على مدينتي الغافية على ضفاف نهر الفرات, وهي تخسر معركة انقاذها من الفقر والحرمان, من التهميش والاقصاء نتيجة غرور ابنائها اصحاب التنظير في المقاهي ومجالس السمر وموائد الطعام المعدة للهروب من جوع الحلول الناجعة وفقر الانفس الباحثة عن الاصلاح في حاويات القمامة التي سرقها الفقراء نهاراً ليحفظوا فيها شيء من الماء, خوفاً من انقطاعه المتكرر او توقف المضخات بسبب شبح الكهرباء الذي عاث في ثروات العراق فساداً لسنين.

كنت امنع الدمع من الانهمار على الوجنتين, خجلاً من فضيحتي على رؤوس الاشهاد, وخشية من الاشارة اليَّ باني قد فشلت في أداء دوري كمثقف في تنوير عقول القوم من ابناء جلدتي, فأشعر بالألم نتيجة تورم مرارتي وحرقة معدتي لكبت المشاعر, وكم وددت ان اترك القوم في نزاعاتهم واقف على ضفاف النهر واصرخ بأعلى .. أعلى صوتي حتى يتمزق صدري وتخرج جميع احشائي وأحلق بعيداً في السماء ابحث عن وطنٍ يشعر فيه الابناء بالمسؤولية ويحكمون عقولهم في حسن الاختيار .